أنقرة «تتفاهم» مع واشنطن شرق الفرات و«تختبر» موسكو في إدلب

أنقرة «تتفاهم» مع واشنطن شرق الفرات و«تختبر» موسكو في إدلب

Aug 20 2019

ظهرت شقوق في الاتفاق التركي - الروسي حول منطقة «خفض التصعيد» في شمال شرقي سوريا مع تقدم التفاهمات العسكرية التركية - الأميركية لإقامة «منطقة آمنة» شمال شرقي سوريا. وحصل ما كان يعتقد بوجود ترابط عضوي بين المنطقتين اللتين يخترقهما طريق «إم 4»، بحيث تعزز تحول الأراضي السورية مسرحاً لمقايضات استراتيجية بين واشنطن وموسكو وأنقرة تخص الشرق الأوسط و«حلف شمال الأطلسي» (ناتو).

وأكدت مصادر دبلوماسية غربية لـ«الشرق الأوسط» حصول «تفاهمات» بين الجانبين الأميركي والتركي إزاء شرق الفرات كانت بمثابة «ترتيبات عسكرية» لا تصل إلى حد الاتفاق على «منطقة آمنة» واضحة المعالم، لكن هذه «الآلية» مفتوحة لتصل إلى حدود الاتفاق الكامل مع توسع نطاقها بعد زوال الكثير من نقاط الغموض في الترتيبات والعلاقات الثنائية بين واشنطن وأنقرة.

الفجوة كانت واسعة بين الموقفين إزاء شمال شرقي سوريا من الاتصال الهاتفي بين الرئيسين دونالد ترمب ورجب طيب إردوغان: أنقرة أرادت «منطقة آمنة» تمتد نحو 460 كلم من جرابلس على نهر الفرات إلى فش خابور على نهر دجلة وبعمق وسطي قدره 32 كلم، بحيث تكون خالية من «وحدات حماية الشعب» الكردية وسلاحها الثقيل وتكون بحماية عسكرية تركية مع تشكيل مجالس محلية ما يسمح بعودة لاجئين سوريين. واشنطن، أبدت الاستعداد لإقامة منطقة بعمق 5 - 14 كلم تكون محصورة الانتشار بحيث لا تصل أكثر من مائة كلم، مع إبعاد «الوحدات» والسلاح الثقيل والبحث في موضوع المجالس المحلية، إضافة إلى أن تكون حماية المنطقة أميركية.

6 ترتيبات
وبحسب المصادر الدبلوماسية المطلعة على مضمون التفاهمات والخرائط، فإن محادثات الأسبوع الماضي التي استمرت ثلاثة أيام كانت على وشك الانهيار قبل تدخل وزيري الدفاع خلوصي أكار ومارك اسبر لإنقاذها والتوصل إلى تفاهمات تبدأ بتشكيل «مركز عمليات مشترك» جنوب تركيا.

وأوضحت المصادر، أن التفاهمات نصت على التالي: 1) إقامة ترتيبات عسكرية (تسمية أميركية جديدة للمنطقة الأمنة) بطول 70 - 80 كلم بين مدينتي رأس العين وتل أبيض في محاذاة الحدود السورية - التركية وبعمق بين 5 و14 كلم. 2) تسيير دوريات أميركية - عسكرية، وكي يتم ذلك لا بد من تشكيل مركز عمليات مشترك جنوب تركيا. 3) الترتيبات عسكرية بحتة لا تتضمن أي إطار له علاقة بالحكم المحلي ولا علاقة لها بالتحالف الدولي ضد «داعش». 4) سحب السلاح الثقيل و«وحدات حماية الشعب» الكردية من هذه المنطقة. 5) إبعاد السلاح الثقيل مسافة 20 كلم من حدود تركيا في هذه المنطقة. 6) تسيير طائرات استطلاع من دون طيار. للتحقق وتبادل المعلومات.

لم تحقق تركيا كل ما أرادته؛ لأنها طالبت بأن يكون عمق الترتيبات إلى «إم 4» شرق الفرات. ولا تزال هناك أمور «غير معروفة وغير متفق عليها» سيجري التفاوض في شأنها بعد إنجاز المرحلة الأولى. لكن الجانب الأميركي وضع «خطاً أحمر واضحاً، وهو حماية (قوات سوريا الديمقراطية)»، إضافة إلى تعهد واشنطن بالحصول على موافقتها على أي خطوة إضافية وإن كانت هذه التفاهمات شكلت «خيبة» لقائد «قوات سوريا الديمقراطية» مظلوم عبدي الذي كان يريد منطقة بعمق 5 كلم فقط وربط ذلك بخروج تركيا من عفرين في شمال حلب. وأوضحت المصادر أن إردوغان «رفض ربط الملفين: شرق الفرات وعفرين».

ويعتقد المسؤولون الأميركيون أنه بهذه «التفاهمات» حققوا هدفهم العاجل المتمثل بتأجيل خطة إردوغان بدء عملية عسكرية مع فصائل سوريا في شرق الفرات بسبب قلق واشنطن من انعكاس ذلك على مصير «قوات سوريا الديمقراطية» والحرب ضد خلايا «داعش» والوضع الإنساني وبرامج الاستقرار شرق الفرات. عليه، فإن البرنامج الأميركي «يو إس ستارت» سيستمر لدعم الاستقرار وسط خطط لتوفير موازنة تزيد على 300 مليون دولار أميركي سنوياً. ولم يمانع الجانب الأميركي عودة طوعية للاجئين سوريين إلى مناطق في المنطقة الخاضعة للترتيبات العسكرية، لكن كان واضحاً رفض واشنطن الدخول في مفاوضات مع أنقرة حول موضوع الحكم المحلي والمجالس المدنية شرق الفرات، ذلك أن الجانب الأميركي يعتقد أن أوضاع المجلس المحلية تحسنت في مناطق شرق الفرات وصولاً إلى دير الزور وباتت «أكثر تمثيلاً للسكان».

ولوحظ أن التفاهمات بين وزيري الدفاع الأميركي والتركي، قوبلت بتحفظات من وزير الخارجية التركي مولود تشاوش أوغلو الذي قال: «يجب أن يكون الأميركيون أولاً صادقين، ويجب أن يفهموا أن تركيا لن تتحمل أي أساليب تأخير». وقالت المصادر، إن تشاويش أوغلو قلق من تكرار واشنطن لسيناريو خطة منبج والبطء في تنفيذها لـ«شراء الوقت وتمييع البرنامج الزمني».

جاء ذلك مع اتخاذ خطوات ملموسة، بينها إقامة المركز المشترك بعد وصول وفد عسكري أميركي بقيادة الجنرال ستيفن تويتي نائب القيادة الأميركية الأوروبية إلى محافظة سانيلورفا جنوب شرقي البلاد، وتسيير طائرات استطلاع تركية كان بمثابة خطوات ملموسة. وقال خبير تركي: «هناك فرق بالمقاربتين: تركيا تريد حماية نفسها من الوحدات الكردية. أميركا تريد حماية الوحدات من تركيا. لذلك هناك صعوبة في تنفيذ التفاهمات».

شمال غرب
تبلغت موسكو أن المحادثات الأميركية - التركية لم تتضمن إقامة منطقة حظر جوي شمال شرقي سوريا، لكن الجانب الروسي حاول الإفادة من تلك التفاهمات عبر دعم فتح أقنية بين «وحدات حماية الشعب» الكردية ودمشق وتعزيز المخاوف الكردية من الأميركيين. كما سعى الجيش الروسي إلى دعم قوات الحكومة السورية في عملياتها العسكرية لقضم منطقة «خفض التصعيد» شمال غربي سوريا ما هدد اتفاق سوتشي بين الرئيسين فلاديمير بوتين وإردوغان.

كانت أنقرة وواشنطن تبلغتا من موسكو نيتها دعم «عملية محدودة» تتضمن «حماية» مناطق شمال حماة بينها محردة وقاعدة حميميم في ريف اللاذقية، إضافة إلى قضم «المنطقة العازلة» بعد رفض «هيئة تحرير الشام» الانسحاب الكامل من شريط «المنطقة العازلة» بعمق 20 كلم وإخلاء السلاح الثقيل، ثم العمل بتفاهمات مع أنقرة لفتح طريقي «إم 4» و«إم 5».

لكن التفاهمات الأميركية - التركية شمال شرقي سوريا قابلتها موسكو بتجاهل وقف النار وتشجيع دمشق على تحدي اتفاق بوتين - إردوغان وتقديم غطاء جوي وسلاح نوي لقوات الحكومة السورية؛ الأمر الذي أدى إلى توتر روسي - تركي في الغرف المغلقة وقبل القمة الروسية - التركية - الإيرانية في 11 الشهر المقبل. وقال خبير تركي، إن أنقرة «رسمت خطوطاً لموسكو وقالت إنها لن تسمح للنظام بعبورها، وأن خطوط اتفاق سوتشي هي آخر ما يمكن لإردوغان قبوله». وتمت ترجمة عملية ذلك عبر دعم عسكري للفصائل وتقديم ذخيرة وسلاح ومعلومات أمنية.

وكان يوم أمس تعبيراً ملموساً عن الوضع الجديد بين موسكو وأنقرة؛ إذ أرسل الجيش التركي رتلاً عسكرياً ضم قرابة 50 آلية من مصفّحات وناقلات جند وعربات لوجيستية، بالإضافة إلى خمس دبابات على الأقل. لكنه تعرض لقصف سوري أثناء وصوله إلى مدينة معرة النعمان الواقعة على بعد 15 كلم شمال خان شيخون في ريف إدلب الجنوبي.

وأفاد «المرصد السوري لحقوق الإنسان» عن استهداف طائرة شاحنة صغيرة تابعة للفصائل المعارضة كانت تستطلع الطريق أمام الرتل التركي عند الأطراف الشمالية لمعرة النعمان؛ ما تسبب بمقتل مقاتل من فصيل «فيلق الشام» السوري المدعوم من تركيا. ولدى وصوله إلى وسط معرة النعمان، نفّذت طائرات سورية وأخرى روسية ضربات على أطراف المدينة، «في محاولة لمنع الرتل من التقدّم».

ونقلت وكالة الأنباء الرسمية السورية (سانا) عن مصدر رسمي في وزارة الخارجية تنديده بدخول «آليات تركية محمّلة بالذخائر في طريقها إلى خان شيخون لنجدة الإرهابيين المهزومين من (جبهة النصرة)»، معتبراً هذا «السلوك العدواني (التركي) لن يؤثر بأي شكل على عزيمة وإصرار» الجيش على «مطاردة فلول الإرهابيين في خان شيخون».

من جهتها، قالت وزارة الدفاع التركية: «على الرغم من التحذيرات المتكررة التي وجهناها إلى سلطات روسيا الاتحادية، تستمر العمليات العسكرية التي تقوم بها قوات النظام في منطقة إدلب في انتهاك للمذكرات والاتفاقات القائمة مع روسيا». لكن موسكو اتهمت انقرة بخرق اتفاق سوتشي، مؤكدة انها لن تسمح به

عليه، بدا واضحاً من التطورات الميدانية وجود «خلاف» بين عرابي اتفاق سوتشي مع اقتراب عرابي «المنطقة الأمنة» من التفاهم. وقال مصدر دبلوماسي، إن أنقرة تريد إرسال إشارة إلى الفصائل أنه «ليس هناك تفاهم روسي - تركي لتسليم إدلب للنظام كما حصل في جنوب سوريا وغوطة دمشق» وأن الجيش التركي ليس بصدد سحب نقاطه، بل عززه بالدبابات لتأكيد «عدم استعداد أنقرة لأن يتم تهديد أمن عسكرييها أو يصبح مصيرهم تحت رحمة النظام وروسيا».
المصدر :الشرق الأوسط




كيف يكسب إردوغان من الحرب السورية؟

كيف يكسب إردوغان من الحرب السورية؟

Aug 17 2019

الياس حرفوش*
مع نهايات الحروب، أو اقترابها من النهايات، يأتي زمن قطف الثمار. لا يذكر التاريخ مشاركات مجانية في الحروب، ولا جيوشاً تتبرع بالقتال خارج حدودها من دون مقابل. وسوريا، الساحة المفتوحة للجيوش ولكل أنواع التدخلات، توفر فرصاً كثيرة لكثيرين للاستثمار فيها. لائحة طويلة، من دول صغرى وكبرى، إقليمية ودولية، غمست أصابعها في الجرح السوري النازف، والشراكات قائمة حول مائدة حصاد الغلال. شراكة تركية - روسية - إيرانية، تحت عنوان «الدول الضامنة»، من دون أن يوضح أحد ماذا تضمن الدول الثلاث في سوريا، باستثناء مصالحها المختلفة في بعض المحطات، المتفقة دائماً على أن المسرح السوري مجال مقبول لتصفية حسابات كل طرف بالطريقة التي تخدم مصالحه.
رجب طيب إردوغان، رئيس تركيا الذي رفع الصوت منذ بداية الحرب السورية زاعماً الدفاع عن مصالح السوريين في مواجهة نظام بشار الأسد، هو اليوم بين السابقين إلى قطف ثمار هذه الحرب، إن لم يكن على رأسهم. إردوغان الذي لم يقصّر في خطب ودّ المعارضة هو الآن المتفرج الأول على سحق هذه المعارضة على أبواب خان شيخون، حيث يلعب حلفاؤه الروس الدور الأكبر في العمليات العسكرية هناك، وذلك تمهيداً لإبعاد المعارضة عن موقعها الأخير في إدلب، هذه المنطقة التي تحولت إلى خزان بشري كبير تجمع فيه كل معارضي النظام السوري، من الذين لم ينتزعهم الموت من المجزرة الكبرى، ولم تبتلعهم البحار في طريقهم إلى أي مأوى آمن.
إردوغان اليوم مهتم بمسألة أخرى، هي مصير المنطقة الحدودية في شمال شرقي سوريا، مع أنها منطقة لا يفترض أن تثير القلق، لأنها أبعد ما يكون عن مناطق النزاع المحتدمة في سوريا. لكن من «سوء حظ» أهل هذه المنطقة أنهم أكراد، وبالتالي يثيرون قلق إردوغان بسبب مجاورتهم لحدود بلاده، ويتهمهم بأنهم موالون لـ«حزب العمال الكردستاني» الذي تعده تركيا تنظيماً إرهابياً. من هنا نشأ المشروع الذي يطلق عليه الأتراك اسم «المنطقة الآمنة»، في محاولة لفتح المجال أمام جيشهم للتدخل فيها، وإقامة منطقة داخل الأراضي السورية، يمكن أن يصل عمقها إلى 30 كلم، وتجري مفاوضات حالياً بين تركيا والولايات المتحدة، بوصفها «حليفة» لـ«وحدات حماية الشعب» ذات الأكثرية الكردية، التي تسيطر على هذه المنطقة الحدودية التي تضم مدناً كبرى قاتلت القوات الكردية للدفاع عنها في وجه تنظيم «داعش» وجيش النظام السوري، ومن بينها كوباني (عين العرب) والقامشلي والحسكة.
في محاولته للضغط على الإدارة الأميركية للقبول بخطة المنطقة الآمنة، هدد إردوغان بشن هجوم على هذه المنطقة للسيطرة عليها بالقوة، وقال: «لا نستطيع أن نبقى ساكتين، ولن نصبر أكثر من ذلك. لقد دخلنا إلى عفرين وجرابلس والباب، وسندخل إلى مناطق شرق الفرات»، وأكد أنه أبلغ واشنطن وموسكو بقراره هذا.
ولن يكون التدخل التركي في شرق الفرات إذا حصل الأول، فقد قام الجيش التركي بعمليتين في المناطق الحدودية مع سوريا: العملية الأولى التي سماها «درع الفرات» في أعزاز سنة 2016، والثانية «غصن الزيتون» في عفرين في العام الماضي.
ومع أن الرئيس دونالد ترمب سبق أن وعد إردوغان بالموافقة على هذه المنطقة منذ ديسمبر (كانون الأول) الماضي، فإن المفاوضات تعثرت بسبب تضارب مصالح البلدين من الملف السوري، خصوصاً بعد التقارب التركي - الروسي الذي كانت منظومة الدفاع الجوي من صواريخ «إس 400» الروسية من أبرز تجلياته، فضلاً عن التنسيق التركي - الإيراني الذي يثير قلق واشنطن من هذا التقارب مع طهران من قبل عضو بارز في الحلف الأطلسي.
وهناك طبعاً الخلاف في نظرة البلدين إلى الهدف من إقامة المنطقة الآمنة؛ واشنطن تريد حماية مشتركة أميركية - تركية لها، وتعد أن الهدف من إقامتها هو حماية «قوات سوريا الديمقراطية» و«وحدات حماية الشعب» من هجمات الجيش التركي، أما أنقرة فتعد على العكس أن الهدف هو منع هذه القوات من الوجود فيها، وجعلها «ممر سلام»، كما تسميه، لعودة اللاجئين السوريين الذين باتت تركيا تشكو من وجودهم، بعدما كانت قد أعلنت أن أبوابها مفتوحة أمامهم.
هناك طبعاً مشروع تركي واضح بشأن «المنطقة الآمنة»، ولا يوجد مشروع أميركي مماثل، ولا استراتيجية أميركية واضحة بشأن هذه المنطقة، كما بخصوص الوضع السوري عموماً. مشروع إردوغان يلعب على الحساسيات التركية التقليدية حيال الأكراد، ويحاول توظيفها. أما واشنطن فليست مهتمة بالمسألة الكردية سلباً أو إيجاباً، بل تهتم بأمرين: مواجهة تنظيم «داعش» الذي كانت «الوحدات» الكردية فاعلة في مواجهته، ومواجهة الوجود الإيراني في سوريا، وتعد واشنطن أن أنقرة لا تشكل ضمانة كافية في هذه المواجهة، فيما التحالف مع «قوات سوريا الديمقراطية» هو أضمن؛ كما أن هذه القوات في نظر الأميركيين منظمة وفاعلة عسكرياً.
«ممر السلام» أو «المنطقة الآمنة» يستفيد منها إردوغان داخلياً بعد إخفاقاته الأخيرة، وأبرزها خسارة معركة رئاسة بلدية إسطنبول. فالوضع الاقتصادي المتدهور بدأ يثير قلق الأتراك حيال حجم اللجوء السوري الذي تجاوز 3 ملايين ونصف المليون لاجئ. إقامة المنطقة المسماة «آمنة» توفر فرصتين لإردوغان: إبعاد اللاجئين السوريين عن الأرض التركية، وإحداث تغيير ديموغرافي في المناطق الحدودية، على حساب الأكثرية الكردية المقيمة فيها.
مرحلة استثمار مهمة هي المرحلة المتاحة الآن لإردوغان من تدخله في النزاع السوري. وما يحتاج إلى متابعة هو مدى قدرة الولايات المتحدة على كبح مشروع الرئيس التركي، والحفاظ على مصالح حلفائها الذين أثبتوا فعاليتهم في قتال تنظيم «داعش» الإرهابي، وفي توفير حد أدنى من الأمن في مناطق سيطرتهم.
أما رد فعل نظام دمشق الرافض للمنطقة الآمنة فهو آخر ما يمكن التوقف عنده من مواقف، لأنه أقل الأصوات تأثيراً في المشهد السوري.
*كاتب و صحافي لبناني
المصدر :الشرق الأوسط




بعد ثماني سنوات من الحرب... اللاجئون السوريون «عبء» يرهق دول الجوار

بعد ثماني سنوات من الحرب... اللاجئون السوريون «عبء» يرهق دول الجوار

Aug 16 2019

قبل أكثر من أسبوعين، وصل نضال حسين إلى سوريا بعدما رحّلته السلطات التركية بشكل مفاجئ إثر توقيفه، على غرار كثيرين من اللاجئين السوريين الذين يتعرضون لضغوط متزايدة من دول الجوار المضيفة الراغبة في إعادتهم إلى بلدهم.
في لبنان وتركيا والأردن، البلدان التي تستضيف 5.2 مليون لاجئ سوري، تقارب السلطات ملف اللاجئين بوصفه «عبئاً»، مع إتمام النزاع السوري عامه الثامن، من دون أي بوادر لحل سياسي قريب.
ويقول نضال (48 عاماً) لوكالة الصحافة الفرنسية، بعد وصوله إلى شمال غربي سوريا: «تركت زوجتي و3 أولاد في إسطنبول».
ونضال واحد من مئات اللاجئين الذين رحّلتهم سلطات المدينة لعدم حيازتهم مستندات إقامة، إلا أنّه سيحاول «بعد فترة الدخول مجدداً إلى تركيا» غير آبهٍ بمخاطر أمنية محتملة.
وتسببت الحرب السورية بتشريد ملايين السكان. وتستقبل تركيا العدد الأكبر منهم، ويقدر بنحو 3.6 ملايين شخص. ويستضيف لبنان، وفق السلطات، 1.5 مليون سوري، بينما تفيد الأمم المتحدة عن وجود نحو مليون مسجلين لديها.
وتقول السلطات الأردنية إن هناك نحو 1.3 مليون سوري على أراضيها، وتفيد سجلات الأمم المتحدة بوجود أكثر من 661 ألفاً.
ويقول مدير الأبحاث في معهد عصام فارس للسياسات العامة والشؤون الدولية في بيروت ناصر ياسين، المشرف على أبحاث تتعلق باللاجئين السوريين في المنطقة: «في غياب حلول واضحة المعالم لعودة اللاجئين السوريين بأعداد كبيرة إلى سوريا، تزداد الحملات ضدهم لخلق ضغوط عليهم أكثر وأكثر حتى يعودوا أدراجهم».
وتعود هذه الحملات في جزء منها إلى أنّ «الأزمة طالت، إذ مرّ على اللجوء السوري 8 سنوات، وباتت البلدان المجاورة لسوريا تعاني من إنهاك».
وقالت منظمات إن تركيا رحّلت مئات اللاجئين السوريين مؤخراً، في إطار حملة بدأتها ضد الهجرة غير الشرعية في إسطنبول.
وتشدد يلديز أونين، من حملة «كلنا لاجئون» في تركيا، على أن «إرسال السوريين إلى بلد لا يزال في حالة حرب... يضع هؤلاء أمام خطر مميت».
وتقول إن «البيئة العدائية تجاه السوريين التي ساءت مؤخراً، في ظل توافق الأحزاب السياسية والإعلام على أن السوريين هم أساس المشكلات» في البلاد، من شأنه أن «يفتح الطريق أمام إجراءات مُعدة لجعل حياة المهاجرين أكثر صعوبة».
ويرجّح مراقبون أن تكون الإجراءات التركية مرتبطة بمساهمة وجود اللاجئين في خسارة حزب «العدالة والتنمية» الحاكم في الانتخابات البلدية الأخيرة، ما جعله تحت ضغوط سياسية داخلية يسعى لتجاوزها.
وتنفي الحكومة التركية قيامها بعمليات ترحيل. وتقول إن إسطنبول التي تؤوي 547 ألف سوري مسجلين لم تعد تستوعب عدداً أكبر، مؤكدة أن عودة نحو 338 ألفاً منذ بدء الحرب تمت «طوعاً».
وفي لبنان، ينظم الأمن العام رحلات عودة جماعية، يصفها بـ«الطوعية»، تمّت بموجبها إعادة أكثر من 325 ألف لاجئ إلى سوريا، وفق بياناته. لكن منظمات إنسانية ترجّح أن عدد العائدين أقل بكثير، وتتحدث عن توثيق حالات ترحيل «قسرية». الأمر الذي تنفيه السلطات بالمطلق.
في منطقة عكار شمالاً، أقدم عناصر من الجيش قبل فترة على هدم جدران إسمنتية لأكثر من 350 خيمة خلال مداهمة تجمعات عشوائية للاجئين، وأوقف عشرات الأشخاص لعدم حيازتهم أوراق إقامة قانونية، وفق منظمات إنسانية.
قبل ذلك، أرغمت السلطات اللاجئين في بلدة عرسال (شرق) منذ مطلع يونيو (حزيران) على هدم أكثر من 3600 غرفة إسمنتية بنوها لتحلّ مكان الخيم. في الوقت ذاته، تلاحق وزارة العمل منذ أسابيع العمالة الأجنبية غير القانونية، في حملة تقول إن هدفها حماية اليد العاملة المحلية، لكن ناشطين يدرجونها في خانة الضغوط على السوريين لطردهم.
ويتزامن ذلك كلّه مع خطاب سياسي يحمّل اللاجئين المسؤولية عن المشكلات الاقتصادية في لبنان.
ويقول ياسين: «من السهل توجيه أصابع الاتهام إليهم، واستخدامهم ككبش محرقة»، في تأزم الوضع الاقتصادي أو ارتفاع معدلات البطالة والتدهور البيئي وغيرها، «لكن هذه كلها مبالغات هائلة».
أما في الأردن، فلا يزال السوريون بمنأى نسبياً عن حملات الضغط.
إلا أن عمان على لسان المتحدث باسم وزارة التخطيط والتعاون الدولي عصام المجالي، تعتبر أن أزمة اللجوء تسببت «بكثير من الأعباء والتحديات»، وأدت إلى «زيادة الضغط على أمن المملكة وتماسكها الاجتماعي».
وتقدر السلطات كلفة الأزمة السورية حتى نهاية العام 2018 بـ12 مليار دولار.
ومنذ افتتاح معبر نصيب مع جنوب سوريا، صيف العام الماضي، عاد نحو 25 ألف لاجئ مسجلين، وفق المفوضية العليا لشؤون اللاجئين في الأردن.
وتجمع منظمات دولية وحقوقية على أن البيئة في سوريا غير مهيأة لاستقبال الهاربين العائدين، في ظل تقارير عن اعتقالات وسوق للتجنيد الإلزامي، عدا الوضع الاقتصادي المتدهور ودمار البنى التحتية.
ويوضح ياسين: «لا تزال شروط العودة غير حاضرة» مع الخشية من «الاضطهاد والهواجس الأمنية».
ويضاف إلى ذلك تحدي إعادة الإعمار، إذ إن «أكثر من نصف اللاجئين السوريين في المنطقة يقولون إن منازلهم مدمرة أو غير قابلة للسكن».
المصدر :الشرق الاوسط




وفاة موظف بصعقة كهربائية اثناء تصليح الأعطال على عمود الكهرباء

وفاة موظف بصعقة كهربائية اثناء تصليح الأعطال على عمود الكهرباء

Aug 15 2019

برجاف| كوباني

لقي موظف خمسيني في مديرية الكهرباء عوني عبد الكريم مسلم حتفه، إثر تعرضه لصعقة كهربائية أثناء عمله فوق عامود الكهرباء، في حي الشهيد خبات في مدينة كوباني.

وبحسب المعلومات إن صعقة كهربائية ضربت الموظف عوني عبد الكريم مسلم من قرية إيدق أثناء عمله فوق عامود التوتر العالي الموجود على ترانس الكهرباءلإصلاح الخلل، وقيامه بتصليح الاعطال على الشبكة.

وقام كادر المديرية بإسعاف الموظف إلى مستشفى المدينة إلا أنه فارق الحياة قبل وصوله للمستشفى.




افتتاح كراج جديد في منبج يشغل 25 باص للنقل الخارجي

افتتاح كراج جديد في منبج يشغل 25 باص للنقل الخارجي

Aug 15 2019

برجاف| منبج

افتتحت البلدية التابعة " للإدارة الذاتية" في مدينة منبج كراج جديد لسيارات النقل الخارجي "البولمان" والذي يضم 28مكتباً يشرف عليها مديرية النقل في المدينة، وذلك في منطقة الحزاونه شرق منبج على طريق حلب.

حيث قامت بلدية منبج بتأهيل ساحة في منطقة الحزاونة وتنفيذ البنى التحتية لإنشاء الكراج، الذي يضم مفرزة اسايش ومكتب للنقل ويضم استراحة وبوفيه ومطعم توزيع المكاتب وجميع الخدمات اللازمة لتشغيل هذا المركز، وإنجاز مظلات ومقاعد للركاب، فضلاً عن الخدمات الأخرى التي يحتاجها المسافر.

ويشغل الكراج 25 باصاً للنقل الخارجي، على الخطوط التي ستشغلها هي (دمشق، حمص، قامشلو، حسكة، لبنان، سعودية).

وبحسب إدارة الكراج أنه على كل شركة أن تملك مالايقل عن 5 بولمانات أن تكون مرسمه ومسجلة لدى مديرية المواصلات في منبج، وأن ينشأ صاحبه عقد شراكة أو تأسيس عقد شراكه مصدقة من قبل محكمة الشعب في منبج، فضلاً عن تقديم براءة ذمة من المالية.




من «منطقة آمنة»... إلى منطقة عازلة!

من «منطقة آمنة»... إلى منطقة عازلة!

Aug 13 2019

حنا صالح*
مباشرة مع انتهاء الاجتماعات الماراثونية الأميركية – التركية في أنقرة بالإعلان أن الجانبين اتفقا على إنشاء «مركز تنسيق مشترك في تركيا بشأن إنشاء المنطقة الآمنة وإدارتها»، حتى انتهت الحملة التي أطلقها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان منذ يناير (كانون الثاني) 2019، ومفادها أن بلاده تعتزم الدخول عسكرياً إلى شرق الفرات لفرض «منطقة آمنة»؛ لأن الأمن القومي التركي على المحك! ولافت جداً تلك البهلوانية التركية التي ابتهجت بالاتفاق – الإنجاز، ورأت فيه اقتراباً أميركياً من الموقف التركي رغم شبه التجاهل الأميركي لكل ما تحقق. ولعل أهم ما تعمدت أنقرة التعتيم عليه هو عدم الإشارة إلى مصير مطالبها الأساسية، وهي: عمق هذه المنطقة وحدود امتدادها، وكيف ستتم إدارتها وبأي قوى؟
لا شك أن الرئيس التركي الذي هدّد أكراد شرق الفرات بأنه سيدفنهم تحت التراب أو عليهم القبول بالذل، كان بأمس الحاجة إلى الحفاظ على ماء وجهه، بعد حالة المراوحة والعجز المطلق عن أي خطوة ميدانية رغم استقدامه الحشود العسكرية التي رابطت على تخوم الحدود السورية، وتجييشه أتباعه من سوريي «الإسلام السياسي» الذين شكلوا واجهة للاحتلال التركي في المنطقة المسماة «درع الفرات»، ولاحقاً في عفرين. ولأن المفاوض الأميركي لم يُسلم بالانتقال التركي إلى التحالف مع روسيا، وهو الجهة التي يستحيل من دون الأخذ برأيها رسم المسار اللاحق للتطورات في سوريا، وجد هذا الطرف أن اللحظة المواتية؛ إذ مجرد التوصل إلى «وعد بالبيع» سيكون كافياً لإرضاء العنجهية التركية! فكان ما يمكن وصفه مجازاً باتفاق «الحد الأدنى» بين الجانبين، ومعروف جيداً أن الرئيس ترمب كان أول من تحدث عن «منطقة آمنة» فور الإعلان الأميركي الأول عن اعتزام الانسحاب الكامل من شرق الفرات.
ولأن تركيا تعرف بالعمق حجم هذا التوافق الذي يوصد الأبواب أمام أي مغامرة عسكرية تركية لاجتياح المنطقة واحتلالها، ما كان سيؤدي إلى شرذمة «قوات سوريا الديمقراطية» وإبعاد «وحدات حماية الشعب» وإضعافها، أطلقت مفهوماً جديداً هو التوافق على إقامة «ممر سلام»، ولهذه التسمية معنى دقيق وبعد تركي واضح، لكنها مع أجواء الابتهاج التي أشاعتها، أطلقت التحذيرات التي عبّر عنها وزير الخارجية أوغلو ومفادها أن بلاده سترفض أي تسويف أو مماطلة من جانب الأميركيين، وواضح أن في ذهن أوغلو اتفاق منبج الذي تم في يونيو (حزيران) 2018 وحتى اللحظة لم يُنفذ وفق القراءة التركية التي تقوم على مبدأ الدخول إلى المدينة، فإذا كانت كذلك نتيجة اتفاق منبج وهي مدينة متوسطة، فكيف يكون الوضع بالنسبة لمنطقة شرق الفرات التي تعادل ثلث المساحة السورية؟
دون أدنى شك، إن تركيا التي تعتبر الاتفاق انتصاراً لها، لن تتخلى عن المطالبة بإخلاء كل المنطقة الحدودية من «وحدات حماية الشعب» الكردية، ولا عن مطلب سحب الأسلحة الثقيلة، ولا عن مطلب مساهمتها العسكرية في الترتيبات الجديدة التي سيخضع لها شمال شرقي سوريا. بالمقابل، لا تمانع واشنطن في مطلب سحب الأسلحة الثقيلة، وهي بأي حال عززت في الأيام الأخيرة من مستوى تسليح «قسد»، والنقاش سيكون مفتوحاً حول المسائل الأخرى. الثابت أن العرض الأميركي هو إدارة منطقة بطول 140 كلم وليس 460 كما تريد تركيا، وأن يقتصر العمق على نحو 15 كلم وليس 35، مع الاحتفاظ بدور في الترتيبات لـ«قوات سوريا الديمقراطية»، أخذاً بعين الاعتبار حجم الكثافة السكانية الكردية، وأن يبقى خارج البحث وضع المدن الحدودية ذات الرمزية الكبرى مثل عين العرب - كوباني والقامشلي والحسكة، التي سيكون لها ترتيبات داخلية مشابهة للوضع في منبج.
بهذا المعنى تبدو الرؤية الأميركية أقرب إلى إقامة «منطقة عازلة» من «منطقة آمنة»، وفي شمال شرقي سوريا داخل الأراضي السورية، فتُحقق أنقرة مطلبها بعدم تهديد حدودها (...)، وبالأساس فإن «قسد» التي خاضت أطول حرب ضد إرهاب «داعش»، وهي حرب من المبكر الجزم أنها انتهت، لم تهدد يوماً الأراضي التركية، وما الاستهداف المتكرر من القيادة التركية للبيئة الكردية - السورية المتحالفة مع الأميركيين، إلا محاولة من الرئاسة التركية التي تراهن من خلال هذا الاستهداف الهرب من الكمً الكبير من المشاكل الداخلية التركية.
ولأن حكام تركيا يدركون حقيقة الاتفاق وجوهره باشروا الترويج لفكرة «ممر السلام»، وهي فكرة لا يمكن معارضتها، خصوصاً أن أنقرة تتحدث عن التحضير لبدء عودة واسعة من اللاجئين السوريين من تركيا. ويتزامن هذا الطرح من جهة مع التطورات السلبية التي تحيط بوضع اللاجئين السوريين هناك حيث يبدو أن مرحلة الاستثمار بورقة اللجوء لم تعد صالحة. لكن أن تكون تركيا قد حالت دون عودة الكثيرين إلى منطقة «درع الفرات»، حيث تحتل ما يعادل 10 في المائة من المساحة السورية بينها جرابلس والباب وأعزاز وسواها، وتنفذ أوسع سياسة تتريك تبدأ بالتعليم وتشمل الوظائف والإنتاج الاقتصادي... فإن ما يشاع عن رغبة تركية في إعادة نحو مليون لاجئ إلى شرق الفرات، يطرح الأسئلة ويثير الهواجس؛ ذلك أن تركيا تريد تكديس أعداد كبيرة من اللاجئين، ومن ضمنهم وحدات من «الجيش الحر» المرتبط بالجيش التركي، بحيث يتحول «ممر السلام» هذا إلى حزام عازل، تتم الاستفادة منه في التوقيت التركي المناسب!
كل الخطط مكشوفة، وما من أمر يؤكد رسوخ منحى نهائي، لكن الثابت اليوم بالنسبة للأميركيين الذين لم يتخلوا عن هاجس إعادة ترتيب العلاقات الأميركية - التركية أمران:
- الأول سحب الفتيل التركي لعمل عسكري أُحادي في شرق الفرات، وهذا أمن وأراح الوضع الكردي؛ لأن الحواضر المدنية الأساسية ستبقى بعيدة عن الأطماع التركية.
- الثاني وهو نجاح النفس الطويل الأميركي لتوفير تفاهمات جزئية مع تركيا، تفاهمات تلجم الاندفاعة التركية إلى المحور الروسي، وهو أمر تعول عليه واشنطن للضغط أكثر على موسكو، سواء لجهة العودة إلى مسار جنيف لتسوية الأزمة السورية، أو لتشديد الخناق أكثر على الحرس الثوري والميليشيات التابعة له في سياق الضغط الأميركي المعلن لإخراج الوجود الإيراني من سوريا.
*كاتب لبناني.
المصدر:الشرق الاوسط




التصنيف الذي عزّز خطاب الكراهية

التصنيف الذي عزّز خطاب الكراهية

Aug 12 2019

سوسن جميل حسن*
باعتباري واحدة من السوريين الذين يشكلون جزءًا كبيرًا من الشعب السوري، لست سياسية ولا تستهويني السياسة، بل إنني شبه أمية بمفرداتها وأدواتها وأساليبها وألاعيبها، فأنا لم أنتمِ في أي يوم إلى أيّ من الأحزاب السورية بكل أطيافها وتصنيفاتها وبرامجها وأهدافها وشعاراتها ومشاريعها، ولم أكن في يوم ما ناشطة في المجال المدني أو الحقوقي، ولم أتبوأ منصبًا في الدولة. ولكنني كنت أعيش على وقع الحياة في سورية، وأشعر بما يشعر به غالبية السوريين. تضعني مهنتي طبيبة أمام معاناتهم وجهًا لوجه. ليست المعاناة المرضية وحدها، بل ألم الحياة الذي يخترق أرواحهم، هذا الألم الذي يشكونه إلى الطبيب قبل شكواهم الجسدية، وهذه ملاحظة يعرفها أطباء سورية، يعرفون كم يحتاج مريضنا إلى البوح، وليس هناك مستودع أسرار أرحب من صدر الطبيب. وإذ اندلعت الاحتجاجات في مارس/ آذار 2011، فإنها سرعان ما تحوّلت إلى حربٍ جرفت الجميع إلى دوامتها، وأعملت سكّينها في جسد المجتمع السوري، وشرذمت الشعب بطريقة أقل ما يمكن أن توصف بأنها وحشية.
بما أنني أنتمي إلى المهمومين بالكتابة، فإن هذا الهم رماني في قلب الأحداث، فنالني ما نالني من لهيب النيران وشظايا القنابل التي تفجّرت في وعي المجتمع، وفي وجدانه، ولولا أن هذه التجربة التي أتكلم عنها أصبحت ظاهرةً تستحق الوقوف عندها، لما أتيت على ذكرها كتجربة شخصية. منذ البداية، استشعرت، كما استشعر غيري من السوريين، هول الهاوية التي انزلقنا إليها، وهول الكارثة التي ألمّت ببلادنا، وأخطر ما فيها وقد بدأت إرهاصاته باكرًا، دمار المجتمع السوري وتجذّر الانقسامات والتصدّعات في بنيانه، فأصبح واقع الحال الذي آلت إليها الأمور، والانكشاف الصاخب لما هو عليه هذا الواقع من أمراضٍ مستبطنةٍ كفيلةً بأن تعرقل
"تضعني مهنتي طبيبة أمام معاناتهم وجهًا لوجه. ليست المعاناة المرضية وحدها، بل ألم الحياة الذي يخترق أرواحهم" تطور المجتمع وتقدمه في طريق مواكبة العصر جديرًا بأن يولى كثيرا من الاهتمام والمتابعة ومحاولات دق نواقيس الخطر، حتى لو كانت أصوات الحرب والمدافع أقوى، على أمل أن يسمع صوت تلك النواقيس في لحظة صمت بين رشقةٍ وأخرى.
الانشغال بالهم العام، وبقضايا المجتمع ومحاولة إنعاش الوعي العام كلما أوشك على الغيبوبة تحت تأثير نزيف الأرواح والضغينة التي توفر لها بسخاء ما يغذّيها، هذا ما شغل شريحة واسعة من المثقفين في سورية، وهذه الشريحة هي التي نالها النصيب الأكبر من الاتهامات والتشهير والشتائم والتخوين، متهمين إياها بالرمادية حينًا وبالتلون حينًا، وبانتظار أن تنجلي الأجواء، فهي تترقب لتعرف إلى أي الضفتين تميل، أو بالأحرى ضفة المنتصر. وهذا مؤشّر يدل على أحد أهم أسباب الخراب الذي لحق بالمجتمع السوري، فكان نتيجة وسببًا في الوقت عينه.
المشكلة الكبرى كانت أن المرحلة طرحت من ضمن ما طرحت على القاعدة الشعبية التحاقًا بنخبها، إلزام الناس بالاصطفاف السياسي، وأن يكونوا مجبرين على خيارين، وكأن لا منقذ لهذا الشعب غير هذا الاصطفاف، موالاة أو معارضة، من دون أن يكون هناك تعريف واضح لمعنى موالاة أو معارضة. لم تكن في سورية، قبل هذه السنوات الحارقة، معارضة سياسية فاعلة بالمعنى الحقيقي للمعارضة، وهذا ليس خافيًا على أحد، ولكن المرحلة أنتجت تجمعاتٍ وفصائل وسياسيين وهيئات نصبت نفسها وصيةً على الحراك الشعبي، ولبست أو ألبسها الإعلام صفة المعارضة. أما الباقي فبات معروفًا على ما أظن للغالبية. أفرزت المرحلة هذين المصطلحين المضللين، لتصنيف مواقف الشعب السوري من الحراك الشعبي أولاً، ومما آلت إليه الأمور أخيرًا، على الرغم من البون الشاسع بين الغايتين أو الهدفين. وما زال تصنيف المواقف والرأي يبنى على أساس هذين المصطلحين المضللين، موالاة ومعارضة، بينما يُنسى الوطن ويُنسى الشعب المتروك للموت وبازارات السياسة. ونسي مثقفون دورهم الحقيقي النزيه من أي اصطفافاتٍ سياسيةٍ أو أيديولوجية أو عقائدية، وراحوا يتراشقون بالنعوت المسيئة،
"لم تكن في سورية، قبل هذه السنوات الحارقة، معارضة سياسية فاعلة بالمعنى الحقيقي للمعارضة" وصار تصنيفهم بعضهم بعضا من خلال فاتحة أي مقال أو خطاب، فإذا لم يُشتم النظام في البداية صار الكاتب أو المثقف مواليًا، وحكم عليه بالإقصاء من الكتلة المعارضة وجمهورها. والعكس صحيح، إذا لم يباشر الكاتب، في الضفة المقابلة، باللازمة التي تستدعي نظرية المؤامرة، وأن الحرب في سورية مقدسة، لأنها تحارب الإرهاب، فإنه معارض متحالف مع الفصائل المسلحة التي تدعم الإرهاب، وتنفذ أجندة الأطراف المتآمرة على البلاد، بحسب منطق الموالاة، وضاعت البلاد بين خطابين مشبعين بالكراهية.
سخّر هذا التصنيف الضيق المضلل لخدمة المشروع الأهم، تدمير المجتمع السوري، بأسلحة الحرب الإعلامية والفكرية الأكثر فتكًا، عملت الحرب الإعلامية التي كانت من أدوات الأطراف الضالعة في الحرب السورية على بث الفتنة وتأجيج المشاعر وإثارة الغرائز وإعلاء خطاب الكراهية.
ولكن أخطر دور يلعبه، وأخطر نتيجة تنجم عن خطاب الكراهية، عندما تمارسه النخب في أي مجتمع، النخب في كل مجالاتها من ثقافيةٍ وسياسيةٍ واقتصاديةٍ ورجال دين وغيرهم، فلهؤلاء جمهور من القاعدة الشعبية، ولهم مريدون ومعجبون وأتباعٌ يتلقفون أقوالهم على أنها التعبير الخالص عن التجربة، وأنها الدروس المستخلصة منها، وبالتالي تكتسب صفة المسلمات التي قد تصل إلى حد الحصانة التي يحظى بها المقدّس. صارت نتائج خطاب الكراهية أكبر من أن تحصى على مستوى المجتمعات، وعلى مستوى الشعوب والدول. وصارت قاعدتها تتسع في العالم معزّزة بأحزاب يمينية شعبوية، وبنخب سياسية وثقافية، وأكبر مثال لخطاب الكراهية
"الخطاب المحمّل بالكراهية يتعارض مع مبادئ العيش المشترك والقيم التي يحتاجها هذا العيش" السافر، من دون الحد الأدنى للخجل، خطابات الرئيس الأميركي، دونالد ترمب، وتغريداته. الخطاب الذي إذا استمر بهذه الطريقة سوف تكون نتائجه كارثية على البشرية التي لم تعد تنقصها أسباب الدمار والخراب.
أصبح مصطلح "الكراهية" في عصرنا الحالي حقوقيًا، يضم مروحة واسعة من التفصيلات التي تصنف في حقل ممارسة الكراهية تجاه الغير، وإذا كان حق الرأي مصانًا يكفله الدستور والقوانين، فإن التعبير عن الرأي مشروط بعدم المس بكرامة الآخرين، فالخطاب المحمّل بالكراهية يتعارض مع مبادئ العيش المشترك والقيم التي يحتاجها هذا العيش. لذلك فإن الفقرة 2 من المادة 20 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية تقول "تُحظر بالقانون أية دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تُشكل تحريضاً على التمييز أو العداوة أو العنف". وهذا يعني أن القانون يحظر استخدام عباراتٍ فيها إهانة أو تحقير أو عنف تجاه أيٍّ من مكونات مجتمع ما، بناء على لونهم أو عرقهم او انتمائهم الديني أو توجههم الجنسي إلى ما هنالك.
ولا يكفي اجتراع قوانين تحاصر هذا الخطاب وتدينه، على الرغم من أهميته، ولكن الأهم أن تتواكب هذه القوانين مع ثقافة عامة، يؤسس لها منذ الصغر بتناغم بين البيت والمدرسة وجميع المؤسسات التربوية. وبالنسبة لسورية اليوم، صار هذا الخطاب الذي كان يمشي في نسغ المجتمع العميق علنيًا صارخًا، ليس فقط الخطاب اللفظي، بل الأفعال التي تنم عن كراهية تبرّر العنف بين مكونات المجتمع تجاه بعضها بعضا، ويمارسه بعض المثقفين تجاه بعضهم الآخر، فينال المثقف الذي يكتب حول قضايا المجتمع الراهنة والمتأصلة، والتي تعزّزت أكثر بعد الحرب، وهي قضايا حيوية، وتحتاج معالجة حكيمة وجذرية، كي يستطيع المجتمع النهوض، ينال النصيب الأكبر من الهجوم والكراهية، حتى صارت صفحات التواصل الاجتماعي منبرًا مناسبًا لممارسة الكراهية بابتذالٍ رخيص، وصارت مكانًا للشللية القائمة على التصنيف القاصر، موالاة/ معارضة.
*طبيبة وكاتبة وروائية سورية، صدرت لها أربعة أعمال روائية.
المصدر:العربي الجديد




افتتاح معهد موسيقي في كوباني

Aug 10 2019


صرة الذهب

صرة الذهب

Aug 10 2019

هبة عز الدين
ذات حلم ،شرَدَتْ روحي لتصل مدينة «بنقردان» التونسية .
عندما حَطتْ على الشـاطئ، جَلسَتْ قليلاً تشـد شـعر الأشـجار لتغطسـه في المياه، فهذه الأشجار لم تغتسل منذ زمن بعيد رغم أنها تعيش بجوار الماء، بينما نداءات السوريين التي تطلب الماء وصلت حدود المزُن ولم تحصل على قطرة.
قالـت روحـي لنفسـها: لمَ لا يلـح الإنسـان بطلـب الأشـياء إلا بعـد أن يفقدهـا؟ أوَلـَمْ يخلـق اللـه للإنسـان عقـلاً يتدبـر بـه وفكـراً يتأمـل بـه؟ إذن لم لا يـدرك بنـو البـشر جماليـة مـا يملكـون؟ هـل يجحدونهـا قبـل أن يفقدوهـا؟ تبـاً لهـم، فهـم يسـتحقون القصـاص بالفعـل .
تأتي، من بعيد، وشوشاتٌ مخنوقة، تنجذب روحي إليها وتنساق خلفها لتعر المـاء وتصـل قـاع المحيـط. هنـاك رأت روحـي هيـاكل عظميـة تجلـس عـلى سـارية سـفينة غرقت منذ آلاف السـنين. أدركتْ، من لهجتهم، أنهم سـوريون، فمرت من بين هياكل عظامهم كي تسـتمع بوضوح إلى أحاديثهم، فارتطمت بقفص صدري لأحدهـم. صرخ، وشـتم ديـن الوجـع. همـس لـه هيـكل آخـر ملقـي بجانبـه: لا تسـب الديـن. سـتجُلد ويفُصـل لحمُـك عـن عظمـك .
قهقه الهيكل« 1» وقال: لم يبقَ لي لحم ليفصل عن عظمي.
عنـد أعـلى السـارية كان يجلـس شـخصٌ نصُفُـه لحـم ونصفـه عظـام. يبـدو أنـه حديـث الغَـرقَ .اقتربتْ منه روحي، فرأت على نصفه اللحمي آثار جَلد واضحة. سمعت أصحاب الهياكل العظمية يدعونـه للجلـوس معهـم، وأكـدوا لـه أنـه سـيعتاد عـلى أحاديثهـم المملـة بعـد حـين. كانـوا ينادونـه «مهندس عصام»، أما هم فقد نسوا أسماءهم وراحوا يتنابذون بالأرقام. اقترب منهم «المهندس عصـام» وسـألهم عـن الوقـت، فنظـروا إلى الهيـاكل النائمـة، وراحـوا يحصـون عدد العظام التي تمثل الأيـام، والمفاصـل التـي تمثـل الأشـهر. بـدت الدهشـة عـلى وجـه عصـام وقـال لهـم:
- مـا هـذه الطريقـة بالعـد؟ إنهـا جديـدة عـي. هـل هـؤلاء ميتـون أم نيـام؟ وإن كانـوا نيامـاً كيـف بإمكانكـم حفـظ الأيـام إذا اسـتيقظوا؟
أجابه الهيكل« 1»: هذه الطريقة اسمها التقويم العظمي، ونحن هنا كلنا ميتون، لكننا نتناوب بالنـوم، كـما كنـا نفعـل أيـام معتقـلات الأسـد، وعندمـا ننتهـي نحـن مـن نوبتنـا نرقـد مكانهـم، وبذلـك نحافـظ على التقويم.
جلـس المهنـدس عصـام معهـم وأحـر الهيـكُلُ« 2» مـن القعـر زجاجـة كـولا مملـوءة بمـاء مالـح ،وقدمهـا لـه، وراحـوا يتبادلـون الأحاديـث عـن وضـع القـاع وأوضـاع القيعـان الأخـرى، ويتسـاءلون متـى سـيتم نقلهـم إليهـا؟ وهـل المـاء في القيعـان الأخـرى أشـد ملوحـة أم عذوبـة؟
وبينـما هـما يتحادثـان إذ يـأتي مـن قـاع بعيـد ضيـف عظمـي يضـع عـلى رأسـه شـماغاً. تطايـرت عظـام المهنـدس عصـام مـن الفرحـة، فهـذا الهيـكل الضيـف مـن الرقـة، نعـم من محافظته، لقد عرفه مـن الشـماغ. أقبـل عليـه عصـام ليحضنـه فأبعـده الهيـكل الضيـف وقـال:
- هـداك اللـه يـا شـيخ. لا ينقصنـا وجـع عظـام بسـبب العنـاق، فـلا حبـوب «بروفـين» هنـا ولا مُسَـكّنات أخـرى. يكفـي أن تحـرك عظـام كتفيـك كإشـارة للعنـاق. هـذا هـو العنـاق العظمـي.
انفـرد المهنـدس عصـام بالهيـكل الضيـف، وسـأله عـن عشـيرته، وتفاصيـل غرقه، فأخره الضيف أنـه كان نائمـاً في بيتـه عندمـا فـاض نهـر الفـرات وغرقـت جميـع البيـوت المحاذيـة، وقيـل، فيـما بعد ،إن ذلك كان بسـبب بناء سـد الفرات .
كانـت الأحـداث التـي يرويهـا الضيـف تمـر بذاكـرة عصـام كشريـط فيلـم قديـم فقَـدَ معظـم صوره ،لكنـه تذكـر بيـت أمـه الأرملـة الطينـي والطاقـة التـي كانـت تطـل عـلى بيـت الجـيران. تلك الطاقة التي كان يمـرر مـن خلالهـا الشرائـط الملونـة والأقمشـة المزركشـة التـي اشـتراها للحبيبـة بنـت الجـيران مـن سـوق «المدْينـة» بحلـب، وتغلغلـت في أنفـه رائحـةُ اللحـم المسـلوق والخبـز المحمـص الـذي كانـت تحـرّه أمـه لوجبـة الثريـد. كـما تذكـر الصنـدوق ذا المرايـا الـذي اشـترته أمـه يوم زفافها، وكيف كان يخبـئ فيـه باكيـت «الحمـراء الطويلـة»، ويختلسـها ليدخـن السـجائر خلـف الـدار. عـلى ذلـك الحائـط خلـف الـدار رسـم، ذات مراهقـة، قلبـاً عاشـقاً ووضـع فيـه سـهماً، وكتـب الحرفـين الأولـين مـن اسـمه واسـم زميلتـه في المدرسـة. وعـلى القسـم السـفي مـن الحائـط قـرأ عبـارات مـن كتـاب التاريـخ والرياضيـات والفيزيـاء، فقـد كان يكتـب مـا يحفظـه عـلى ذلـك الحائـط. ضحـك في نفسـه وهـو يتذكـر عبـارة «الحيطـان دفاتـر المجانـين». وحـدث نفسـه قائـلاً: الحيطـان دفاتـر السـوريين.
تعـود بـه الذاكـرة أيضـاً إلى بـاص النقـل ذي العجـلات الهرمـة الـذي أقلـه ذات صبـاح إلى مدينـة حلـب قبـل شـهر مـن موعـد الامتحانـات مـع أمـه التـي لا أمـل لهـا في الحيـاة مـن دونـه، فهـو وحيدهـا ومنجيهـا. بعـد أسـبوع مـن وصولهـما المدينـة سرت أخبـار تفيـد بـأن كل البيـوت بمحـاذاة نهـر الفـرات قد غرقت مع ساكنيها وغرقت معها الحبيبة والشرائط الملونة وذكريات التدخين الرية والنقش عـلى الحائـط، ولم يبـق لهـما سـوى صرة الذهـب التـي كانـت تحملهـا معهـا أمـه حيثـما ذهبـت.
يتذكـر عصـام كيـف نـزل وأمـه إلى خـان الذهـب بسـوق «المدْينـة» وباعـت أمـه أسـاورها كلهـا لتتمكـن مـن شراء بيـت في مدينـة الرقـة، وعـاد الألم ذاتـه يعتـصر قلبـه عندمـا تذكـر دمـوع أمـه وهـي تفـك الـصرة القماشـية وتخـرج الأسـاور والكـردان لتبيعهـا، لقـد كان هـذا مهرهـا ذات يـوم ولطالمـا تزينـت بهـا أمـام صديقاتهـا في الأعـراس .
تـردد في مسـمعه صـوت بـكاء أمـه ونحيبهـا عـلى غـرق الصنـدوق ذي المرايـا الـذي خبـأت فيـه جلابيـة زوجهـا المتـوفى وعباءتـه، فلـم يبـق لهـا منـه سـواهما، وكانـت تحضنهـما كل مسـاء وتشـم رائحتهـما لتتذكـر أنهـا كانـت يومـاً في ظـل رجـل.
عندما عادا إلى الرقة اشتريا بيتاً في شارع «تل أبيض»، ذا غرف حجرية واسعة ونوافذ مرسومة بشـكل هنـدسي عـلى خـلاف طاقـة البيـت الطينـي. الكـف الزرقـاء التـي كانـت معلقـة عـلى البـاب أبهرتـه، وتمنـى لـو أنـه يعـوم بـين البيـوت الغارقـة ويجـد حبيبتـه ويعطيهـا هـذه الكـف كقـلادة.
عـلى الحائـط، في غرفـة الجلـوس، كان ثمـة رسـم لمريـم العـذراء فالبيـت كان يقطنـه مسـتأجر مسـيحي ماهـر بالرسـم. وقـد كان كل صبـاح ومسـاء يقبـل رسـم السـيدة ذات الشـعر الأشـقر الناعـم والعنق البيضاء خلسة عن أمه ويداعب خصل شعرها. هذه السيدة بقيت الأنثى الأولى والأخيرة في مخيلته، فلا يوجد جمال يضاهي جمالها بين كل النساء اللواتي رآهن، ربما لأنها هي الوحيدة بين نساء تلك المدينة التي كان يستطيع أن يجلس أمامها على الأرض، ويأكل بيديه، في حرتها ،بلا ملعقة، ويمسـك البطيخ ويأكله دون تقشـير.
في الطابـق الأرضي، تحـت البيـت كان «أبـو زينـة» يبيـع أشرطـة كاسـيت لسـعد البيـاتي ويـاس خـر، وربمـا لأنـه يعشـق صـوت سـعد البيـاتي كانـت أغانيـه تصـدح عاليـاً طيلـة الوقـت. أغـاني البيـاتي امتزجـت مـع صـورة السـيدة العـذراء وأصبحـت جـزءاً مـن روح المهنـدس عصـام لدرجـة أنـه
إذا سـمع في البـاص صدفـة صـوت البيـاتي هـم أن يـرب السـائق، فهـذا الصـوت لـذاك الجسـد فقـط، ولا يجـوز لأحـد أن يقـترب منهـما.
تذكر المهندس عصام أيضاً أنه كان جالساً، ذات مساء، على شرفة منزله الكائن في شارع تل أبيـض، ولمـح فتـاًةً ممشـوقة القـوام واسـعة العينـين طويلـة الشـعر تقـف عنـد مدخـل أحـد المحـلات لتشـتري قماشـاً. لفتـت نظـره الفتـاة فنـزل بسرعـة إلى الشـارع وسـار خلفهـا حتـى وصلـت بيتهـا .
بقـي يراقبهـا كل يـوم وهـي ذاهبـة مـن بيتهـا إلى لمدرسـة، فقـد كانـت هـي مدرسـة للغـة العربيـة.
بعد مدة وقع في غرامها، وطلب من والدته أن تخطبها له، فتمّ الأمر وتزوجا بعد شهر تقريباً.
الزوجـة الجميلـة أضفـت ألوانـاً رائعـة لحيـاة المهنـدس عصـام وكانـت تحـر معهـا كل يـوم باقـة زهـور مـن طلابهـا وتنتظرهـا حتـى تجـف ليقـوم عصـام بتثبيتهـا عـلى الجـدار حـول السـيدة. أصبـح الحائـط وكأنـه مـزار مقـدس لعشـاق الفـن والجـمال ولم يـتردد أحـد مـن الأصدقـاء الزائريـن أن يضـع بصمتـه بتوقيـع عـلى ذاك الحائـط.
تذكـر عصـام أيضـاً عندمـا حملـت زوجتـه وأنجبـت لـه مريـم التـي كانـت تحبـو قـرب جـدار مريـم الأولى وكأنمـا تطـوف حـول مـزار. وسـط كل تلـك الذكريـات السـاحرة يقفـز جنـي أسـود لذاكـرة عصـام أسـموه «أبـا لقـمان الداعـي» الـذي جلـده في السـاحة العامـة أمـام كل النـاس بسـبب ذاك الجـدار النـصراني في بيتـه. اضطـر بعدهـا عصـام لأن يجمـع كل تلـك الـورود عـلى الحائـط ويضعهـا في صنـدوق خشـبي ويدهـن الحائـط وعينـاه تفيضـان دمعـاً وقهـراً.
نعـم لقـد اغتصبـوا أحلامـه التـي علقهـا عـلى ذاك الحائـط، أمـا الداعـي أبـو لقـمان فـكان يراقـب عصـام ليتأكـد مـن تنفيـذ الحكـم بقـص رقـاب الذكريـات ودهـان الحائـط. نظـر إليـه عصـام باحتقـارٍ وقـال لـه:
- تم الأمر تفضل خارج منزلي.
أغضـب تـصرفُ عصـام أبـا لقـمان، وصـار يضغـط عـلى عصـام بـكل شـاردة وواردة كي يغـادر المدينـة، وآخـر مـا فعلـه هـو جلـد عصـام للمـرة الثانيـة لأنـه حليـق اللحيـة والشـارب.
لم يبـق أمـام عصـام حـٌّلٌّ سـوى الهجـرة غـير الشرعيـة عـن طريـق البحـر. تـرك والدتـه وزوجتـه وابنتـه مريم وسافر إلى تونس كي ينتقل بعدها إلى ليبيا ومنها إلى إيطاليا. وفي عرض البحر غرق المركب ليجد نفسه بهذا القاع العظمي.
كانـت روحـي في هـذه الأثنـاء تفتـش في جيـب قميصـه الأبيـض، فلـم تجـد سـوى مفتـاح بيتـه .
مـد يـده إلى جيبـه وأخـرج المفتـاح ورمـاه في البحـر.
وقال للضيف العظمي: لم أعد بحاجة لهذا المفتاح، فالآن أدركت أن البيت ليـس جدرانـاً وبابـاً ومفتاحـاً، ولـو كان كذلـك لمـا بقـي الحائـط الطينـي وحائـط مريـم صرحـين سرمديـين في روحـي... البيـت ذاكـرة وحيـاة بعد ممات...
حملت روحي المفتاح وأحرته معها وألقته على طاولتي وهمست لي:
لا تقلقي إن أضعت المفتاح. لا قيمة للمفاتيح في عالم الأرواح.






عندما تكون الصداقة أفظع من العداوة!

عندما تكون الصداقة أفظع من العداوة!

Aug 10 2019

رضوان السيد*
القول السائر: «إذا كان هؤلاء أصدقاءك، فلستَ بحاجة إلى أعداء» ليس عربياً، لكنّ الرئيس حسني مبارك استشهد به عام 1993 عندما اشتغلت الوساطات لإعادة العلاقات بين إيران ومصر، وكان الرئيس الراحل حافظ الأسد شديد الحرص على ذلك؛ وبخاصة بعد وقف إطلاق النار بين العراق وإيران عام 1988. وقد بدا الأمر سهلاً مثل حذف اسم الشارع المسمَّى «خالد الإسلامبولي» قاتل الرئيس السادات في طهران، وتسليم بعض المطلوبين من النظام المصري من محيط قتلة السادات، أو من المتطرفين الآخرين الذي كانوا يغدون ويروحون بين مصر وأفغانستان عبر إيران. قال الرئيس الأسد: «الإيرانيون أصدقاء القضايا العربية وفي طليعتها قضية فلسطين، وانظر كيف فعلوا أو فعل أنصارهم بالجنود الأجانب في لبنان، وهم يدعمون مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، فصدِّقني يا سيادة الرئيس إنهم أصدقاء، ولولا عدوان صدام عليهم لما رأينا منهم إلاَّ كل خير»! وفي رواية أحد الوسطاء، وكان كويتياً يعيش في جنيف، أنّ الرئيس مبارك ضحك وقال: «نعم، لقد كانت لدى صدام مبررات، لكنها ما كانت تكفي لشن تلك الحرب الضروس، أما أنّ إيران صديقة؛ فإنها معكم ربما بسبب العلاقة الطويلة، أما معنا فليست كذلك على الإطلاق؛ وعلى أي حال: إذا كان هؤلاء أصدقاءك، فلست بحاجة إلى أعداء يا سيادة الرئيس»!
عندما قامت الثورة الإيرانية باندفاعتها الهائلة، اختلف المراقبون إلى أين تتوجَّه، فكان هناك من كبار المفكرين الغربيين (مثل ميشال فوكو!) من قال إن الملالي سيتوجهون لتجديد الإسلام، وإحداث نهضة في العالم الإسلامي! بينما قال آخرون: إنّ الإيرانيين سيتوجهون شرقاً نحو الدول الإسلامية الواقعة تحت السيطرة الشيوعية، بسبب العداء الشديد الذي أظهره الملالي ضد الأميركيين وضد الروس في الوقت نفسه. وانحسم الأمر لصالح التوجه الثالث: نحو العراق والشام ودول الخليج. وقد ظنَّ البعض أنّ ذلك حصل بسبب هجوم صدام على إيران. أما الصحيح الذي صار يقينياً الآن فإنّ ذلك التوجه كان بسبب الشحنة العاطفية المذهبية، والأحقاد التاريخية، وتأتي مسألة دعم العرب لصدام رابعاً أو خامساً. لقد أرادوا تحرير المزارات الشيعية، وأرادوا إسقاط الحكم العربي في كل مكان. ورغم الإعلان عن يوم القدس وفلسطين منذ عام 1980؛ فإنّ ذلك ما منعهم من التعاون مع إسرائيل عام 1985 عندما تضايقوا في الحرب مع صدام، وصولاً أخيراً إلى الافتخار باحتلال أربع عواصم عربية.
في كل مكان، ومع كل طرف، وبالداخل والخارج، تعامل الثوريون الإيرانيون الجدد ببراغماتية ومصلحية إلاّ مع العرب والأكراد. أما الأكراد فبسبب المسألة القومية، وميلهم للانفصال في تركيا والعراق وإيران وسوريا. وأما العرب فبسبب المسائل الدينية والقومية والتاريخية. والطريف أنه في السنوات الأولى للثورة صدرت عدة كتب ضد القومية العربية بالفارسية والعربية. وكنتُ أظن أنّ ذلك كان بسبب غزو صدام البعثي لإيران. ثم قال لي عدة أساتذة إيرانيين إنّ المسألة أعمق من ذلك، وتتعلق بالتاريخ والفتح العربي لإيران. وقد بدأوا منذ عام 1981 بإنشاء ميليشيات مسلحة في البلدان العربية سراً وعلناً، حسب وضع الدولة والحكومة القائمة في ذاك البلد. فحيث تكون الدعوى مقاومة العدو الصهيوني، تكون الميليشيات علنية في أهدافها على الأقل مثل «حزب الله» و«الجهاد الإسلامي». ولا أقصد هنا إلى تعديد التنظيمات التي أقامتها إيران في الثمانينات؛ بل منذ الثمانينات، وقد بدأتُ بدراسة الإسلام السياسي والآخر الجهادي على أثر قيام الثورة الإيرانية (1979)، ومقتل الرئيس السادات (1981) ولاحظتُ «فروق» التربية والتدريب للتنظيمات وبخاصة في لبنان، حيث كانت لدينا مصادر قريبة. وقد كانت التربية مذهبية بحتة، ومعادية للدول القائمة والنظام، والتركيز على أن الشيعة المضطهدين والمظلومين هم الأكثرية بين السكان في كل مكان. وحيث لا يمكن إسقاط النظام والحلول محله، فالانفصال خيارٌ حاسم، حفظاً لإيمان المرء. وعندما بدأت مجموعات الاغتيال للشيوعيين والقوميين في لبنان ممن أسسوا المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الإسرائيلي، قال لي أستاذٌ معنا بالجامعة اللبنانية ما كنتُ أعرف أنه من الحزب: «كيف يستقيم هذا؛ أن يقاتل الشيوعي لتحرير أرض المسلمين؟!»، وقلتُ له: تعرف أنني أدرّس باليمن أستاذاً زائراً بجامعة صنعاء، وقد قال عبد الله عزام في مسجد الجامعة، وهو آتٍ كما تعلم من «الجهاد» الأفغاني قبل أسابيع كلاماً يشبه كلامك عن الذين يناضلون في فلسطين في الانتفاضة (الأولى): ياسر عرفات وحواتمة وحبش هؤلاء شيوعيون وماسونيون... إلخ؛ ما بقي جهادٌ في سبيل الله إلاّ في أفغانستان! ثم ظهر التكفير (الوطني)، والتكفير (الديني) في مناسبتين: في حرب عام 2006 حين جرى تخوين الحكومة اللبنانية وتكفيرها، لا لشيء إلا لأنّ «الحسينيين» هم الذين ينفردون بالجهاد. ثم كان التكفير العلني عام 2012 - 2013 بالزعم من جانب نصر الله في خطابات متتالية، أن الشيعة إن لم ينهضوا للقتال في سوريا والعراق؛ فإنّ التكفيريين (نعم التكفيريين) سيغزون النجف وكربلاء وقم ومشهد... إلخ. ومن هم التكفيريون شديدو الهول؟ سكان بلدات القصير والقلمون والزبداني وداريا، والذين قُتلوا وهُجِّروا، وتسكن اليوم في منازلهم ومزارعهم الميليشيات الإيرانية والإيرانية الهوى ومن عدة بلدان!
آخر مرة زرتُ اليمن كانت عام 2004، وكانت مظاهرات واحتجاجات «الشباب المؤمن» (ما كانوا قد سَمَّوا أنفسهم: أنصار الله!) قد بدأت، ذهبت مع أحد تلامذتي إلى صعدة وضحيان لتأمل الموقف، وقد قال لي الشاب وقتها: لقد تسلّل إلينا المرض الإيراني التكفيري من إيران ومن لبنان، فحتى لو انتهى النفوذ الآيديولوجي الإيراني الآن، ماذا نفعل نحن مع جيلٍ كاملٍ باليمن، وماذا تفعلون أنتم بجيلين وأكثر في لبنان والعراق والبحرين؟! وعندما عدتُ إلى صنعاء أخبرتُ الدكتور عبد الكريم الإرياني بما شاهدتُ وبكلام الشاب؛ فقال لي: نحن من حول الرئيس صالح فريقان: فريق منه الرئيس صالح يعد هؤلاء شديدي الخطر، فهم يكرهون عروبتنا وعربيتنا وديننا ومستعدون للموت من أجل الإمام، ومن يستخلفُهُ منهم في اليمن! وفريق منه أنا أرى أنه بخليطٍ من الحزم والدهاء، كما اعتاد الرئيس صالح، يمكن الخروج من هذه الظاهرة! لقد أخطأ الرئيس صالح، رحمه الله، عندما تصرف بخلاف قناعاته.
يوم الأحد الماضي في 4-8-2019 أعلن الإيرانيون عن خطف سفينة جديدة رابعة أو خامسة، قالوا إنها أجنبية، وإنها تُهرّب النفط لبعض الدول العربية! وسمعتُ بالمناسبة مسؤولاً إيرانياً يقول: إيران صديقة الشعوب العربية، لكنّ الأميركيين يوهمون العرب أننا أعداؤهم! وإذا كان الإيرانيون أصدقاءنا كما يزعمون، فلسنا بحاجة بالفعل إلى المزيد من الأعداء!
*كاتب وأكاديميّ وسياسي لبناني وأستاذ الدراسات الإسلامية في الجامعة اللبنانية.
المصدر :الشرق الاوسط




Pages