جمهورية شرق الفرات

جمهورية شرق الفرات

Oct 14 2018

برجاف|د.آزاد أحمد علي
تفضل السيد توركوت أوزال بالقول قبل حوالي ثلاثين سنة: "آه لو كان اسم تركيا الأناضول أو أناضوليا لكانت كل مشكلاتنا قد حلت". بهذا المنطق العلمي العميق والحس السياسي الرفيع شخص مؤسس نهضة تركيا الحديثة مشكلات تركيا وأحالها ليس للتسمية وإنما إلى الذهنية التي تنتج الأسماء وبالتالي إلى أيديولوجيات الحكم القاتلة في المنطقة عموما وتركيا على وجه الخصوص، وبالتالي ما ينتجه الاسم من سياسات. إنه اكتشاف عملي مبكر لطبيعة العلاقة الوثيقة بين الجغرافيا والهوية من جهة، وأنظمة الحكم وأيديولوجيات تقديس الهويات من جهة أخرى. فماذا يوحي على سبيل المثال لا الحصر اسم (جمهورية أفريقيا الوسطى)؟! لا شيء سوى الجغرافيا ثم الجغرافيا.
حسنا لقد تغيير العالم وتغيرت موازين القوى والبنى المجتمعية في الشرق الأوسط والعالم كثيرا منذ أن رحل أوزال، فما الذي يمكن إضافته لهذه الرؤية التي سبقت عصرها، فتم التخلص من صاحبها مبكرا.
لاشك أن موضوعات الهوية والسيادة وأنماط الحكم وصولا إلى الحكم الرشيد، فغياب العدالة الاجتماعية والقومية هي مواضيع جوهرية تولد معضلات وصراعات، بل حروب لا تنتهي في عالمنا المعاصر، وما تداعيات المسألة السورية وكل تعقيداتها إلا أحد نتائج ومخرجات الخلل في تحقيق العدالة.
على اعتبار قد اختلطت الجغرافيا بالطبوغرافيا فالديموغرافيا، وعلى الرغم من عدم فهمنا تماما بأي مقياس يتم قياس أوطاننا من قبل الغرب الأوروأمريكي فالشرق الروسوايراني، سنتطرق بشيء من التفصيل لدلالة جغرافية شرق الفرات، ونحاول تفسير موقعها السياسي المعاصر بدلالة متغيرات الهوية والتسمية التي مرت بها، في استعانة بالتاريخين البعيد والقريب. فهل الجغرافيا تحدد الهوية أم الديمغرافيا فالثقافة تاليا؟ في حالتنا وفي مأساتنا الجغرافية المزمنة أدلى علماء الآثار بدلوهم فقالوا أن منطقة (كوردا) هي منطقة تقع بين دجلة والخابور، وهي صفة جغرافية .
إذن الانتماء الأساس كان إلى الجغرافيا وبالتالي مقاربة أولية لتفسير هوية المنطقة التاريخية تفصح أن أغلب هذه المسميات والتصانيف اشتقت من حكم الممالك والإمبراطوريات المتعاقبة.
باختصار فالجغرافيا كانت معضلة قائمة بذاتها تتداخل مع سمات الهوية بصفتها أيضا مشكلة تاريخية مزمنة في العالم الإسلامي، حتى تبدو الجغرافيا الوجه الآخر لمشكلة الهوية في العالم الإسلامي.
ولكن ما هو مهم لنا في ربطنا الماضي بالحاضر هو تسلسل المسميات التي مرت على الجزيرة، بدءا بالقرون الأولى ما قبل الميلاد، وهي التالية:
1- مملكة كوردوئيني
2- بيت كوردو أو قردو (بيث قردي بالسريانية)
3- آقور، آكور
4- ميزوبوتاميا
5- الجزيرة الفراتية
6- ثم أخيرا الجزيرة السورية
فلم تكن تبعية الجزيرة الفراتية بالمعنى الجغرافي ولا السياسي السيادي عائدة لسورية، إلا بعد مجيء الفرنسيين ورسم حدود المنطقة بعد الحرب العالمية الأولى وتثبيتها تماما بعد الحرب العالمية الثانية. فأقاليم وولايات سورية الخمسة كانت معروفة وهي: (حلب، دمشق، طرابلس، عكا، غزة) مثبته في العديد من الخرائط منها خارطة بريطانية أعدت من قبل (Warren Henry عام 1851).
ومع ذلك من يقترح إن تتبع الجزيرة لديار بكر حاليا سينال السخرية. من منظار سكاني كان نهر الفرات حدا طبيعيا فاصلا بين الكورد وسكان الجزيرة الفراتية الآخرين والعرب. هذا ما أورده مفتي دمشق ابن فضل الله العمري القرشي قبل أكثر من سبعمائة عام، حيث شرح بطريقة واضحة جغرافية الوجود الكردي الملاصقة للعرب، خصوصاً للذين يتبعون حكام قافرطوف أو عقرشوش، في الجزيرة الفراتية: "وموقع بلادهم من بلادنا قريب، والمدعو منهم من الرحبة وما جاورها يكاد يجيب. وملوكنا تشكر لهم إخلاص نصيحة، وصفاء سريرة صحيحة. والقائم فيهم الآن شجاع الدين بن الأمير نجم الدين خضر بن مبارزكك"
بمعنى واضح كان الكورد يسكنون شرق الفرات تابعين لحكام عاقرطوف (غرب سنجار) والعرب غرب نهر الفرات تابعين لدمشق وعند قلعة الرحبة (الميادين) ينادون بعضهم بعضا على ضفتي الفرات.
في العهد الحديث حددت معاهدة سيفر بوضوح سياسي الحدود الغربية لدولة كردستان بنهر الفرات وبينت إن الاستفتاء على الاستقلال يتم في مناطق شرق الفرات، وبعد فشل المعاهدة وتثبيت اتفاقية لوزان، لم يقتنع الفرنسيون باتفاقية لوزان تمام وأعادوا المحاولة وان على نطاق أضيق. فقد تفهم الفرنسيون بعد انتدابهم على سورية خصوصيات الجغرافيا والتاريخ وقد حاولوا توفير بيئة لتحالف كردي – مسيحي – مع الايزيديين في شمال سورية وتأسيس كيان ذات حكم ذاتي في الجزيرة يمتد من سنجار إلى الفرات وصولا إلى لواء اسكندرون. لكن البريطانيين والأتراك وقفوا سدا أمام هذا المشروع، فألحق لواء اسكندرون باستعجال بتركيا. واقتصر جهد الفرنسيين على التحالفات داخل الجزيرة السورية والتي كانت تسعى لحكم ذاتي موسع لمنطقة الجزيرة أي شرقي الفرات حتى رحيل الفرنسيين بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الثانية.
لنعود للواقع السياسي العصيب اليوم، ونربطه قليلا بالجغرافيا، فمتغيرات الديمغرافيا يجب أن لا تلغي حقائق التاريخ والجغرافيا.
السؤال الكبير والتساؤل العريض يكمن في سر عدم ترجمة هذه الحقائق الجغرافية والتاريخية في عملية الحل السياسي للمسألة السورية؟
المشكلة تكمن أولا في نمط التفكير الأمريكي الذي يميل نحو احترام الجغرافيا أكثر من تعاطفه مع الديمغرافيا وربما تتحسس من التقسيمات الإثنية، والمشكلة في جانبها الآخر تكمن في قراءاتنا الرغبوية، فنحن نظل ضحايا قناعاتنا وتعلقنا الشاعري بقوميتنا، دون أن ندرك أن الأمريكان وإلى حد ما الأوربيين قد جاوزوا المرحلة القومية، فثقافة أمريكا السياسية ثقافة غير أثنية ولا قومية بل قانونية وجغرافية واقتصادية في المحصلة.
للبدء بمقاربة تحليلية لفهم المشهد السياسي، نمعن في خلاصة خطة أمريكا الجديدة في سوريا التي وضعها جيمس جيفري، الذي أكد أن هدف الادارة الأمريكية هو وضع دستور جديد لسوريا وإعادة تجربة العراق مرة أخرى...
ما العمل؟!
قد يكون الفرات له دلالة جغرافية وسياسية عميقة وقد يعاد صياغة هذه الدلالة من جديد ولكن كنخب كوردية وكقطاع من المثقفين والكتاب، حق لنا أن نبدي آراء مخالفة ليس للساسة وحسب وإنما نواجه بها حتى العاطفة الجامحة للجموع الشعبوية التي تجد بوابة خلاصها عند الأجنبي الغازي أو الجار المحتل. يجب أن ندقق في متحولات الجيوبوليتيك الاقليمي والدولي، ونتعلم من تجاربنا أنه ليس ثمة طريق واحدة لنيل حقوق الكورد في سورية.
كمنهج ومسار تنموي لا بديل للدول الواسعة القوية في زمن العولمة الطاغي ولا أفق في التجمعات الصغيرة مهما كانت جميلة ورحيمة. فالكاتب المبدع هو أول من يتحسس من ذهنية الكانتونات كما قاوم وسيقاوم عقلية الاستبداد والعنصرية.
باختصار شديد، في قراءة واستقراء نهائي :مادامت هنالك دولة مثل تركيا وأخرى قوية مثل إيران في جوارنا، فان حلم الكورد بالسيادة التامة على أرضهم التاريخية سواء شرق الفرات أو غربها، أعاليها أو على منابعه بات صعب المنال.
الاضطراب الكبير الحاصل في النظام الإقليمي شديد الاختلال. لذلك أجدد و أكرر قناعاتي السابقة بالقول أنه لا تقدم في حياتنا السياسية والمدنية والحضارية العامة بدون تضامن عربي - كردي يحقق تحالف جديد واضح وصريح، روابط متينة بين سورية والعراق بشكل خاص يستجمع القوى وينهض معها باقي المكونات لبناء دول مدنية ديمقراطية مرنة قادرة على النهوض بأعباء العصر، تنهي الاحتلالات التركية – الإيرانية ونزعاتها التوسعية وقادرة أن لا تسير في ركب الأمريك. فبدون هكذا تحالف لا يمكن التأسيس لنهضة علمية – تنموية إدارية، أو صياغة عقد اجتماعي سياسي حضاري جديد يبلي طموح الأجيال القادمة. ولا يمكن بدون تحالف عربي – كردي أن يتحقق التوازن في القوى الاقليمية. غير ذلك هو الانجرار الأعمى إلى لعبة الكبار لعبة الأمم، لعبة الأمريكان المفضلة في السياسة والاقتصاد والتجارة، خلاف هذه الرؤية الجريئة سنبقى نقامر على مستقبل شعوبنا عبر خدمة مشاريع الآخرين. ستظل مجازفة شرق الفرات كما دكتاتورية غربها قد ندفع جميعا بل الأجيال القادمة ضريبتهما.
في المنظور القريب نحن أمام احتمالين، السيناريو الرئيسي، حيث كل المؤشرات تفصح عن أن كافة القوى الدولية واللاعبين الإقليميين قد اقتنعوا بعدم جدوى الحرب وان إحياء العملية السياسية بموجب القرار 2254 هو الهدف المعلن والرئيس لتأمين انتقال سياسي متدرج وصياغة دستور جديد لسوريا. وهذا السيناريو يتجاهل حقائق الجغرافيا وثقل الديمغرافيا والتضحيات التي قدمها الكورد طوال السنوات الست الماضية. فإذا كان موقع الكورد هزيلا ضمن مسار ومفاعيل السيناريو الرئيسي. فدورهم سيكون إشكاليا وربما كارثيا في السيناريو البديل الثاني.
السيناريو البديل يتلخص باتجاه بلورة سلطة محلية شرق الفرات، سيناريو (جمهورية شرق الفرات) الافتراضية، وهو سيناريو أمريكي احتياطي وبديل، سيناريو صقور الحزب الجمهوري في الادارة الأمريكية، سيناريو الأزمة، سيناريو الصراع المستمر. قد يستخدم عن اللزوم خاصة في حال تلكؤ السيناريو الأساسي، ذلك لممارسة مزيد من الضغط لتطبيق أجندات أمريكا وتحقيق أهدافها غير المعلنة، عبر استغلال قوى الكورد ودماء شهدائهم وطاقات حلفائهم في الجزيرة السورية. فالسيناريو المرتبط بسلطة شرق الفرات هو في كل الأحوال سيناريو الحرب وليس السلام. وهكذا يمكن الافتراض أن الكورد يستخدمون جنودا في الخطط البديلة، وقودا للحرب ومكانهم هامشي على طاولة مفاوضات السلام. في حين أن الامتيازات والمكاسب الدستورية تكون حصة غيرهم الذين توسعت مقاعدهم على قطار السيناريو السلام.
صحيح يجب أن لا نكون أسرى التاريخ ومعجبي سردياته، لكن ينبغي أن لا نستهتر بمعطيات الجغرافيا، لذلك علينا الالتزام بفقه الجوار في المقام الأول، فمصلحة مجتمعاتنا يجب أن تكون هو الحكم وتأتي قبل مصلحة الدول المتحكمة بالملف السوري، ولا يمكن لأهداف جماهيرنا أن تتحقق إلا بالالتزام بقيم المساواة واحترام حقوق الإنسان وتطلعات الشعب السوري المظلوم برمته.
لذلك ليس من الحكمة السياسية أن يتحول الكورد وحركاتهم السياسية ومنظماتهم العسكرية إلى مادة احتياطية لأجندات أمريكا المستقبلية، فكل تجاربنا معها وخسائر شعبنا ودماء شهداءنا تستدعي الحذر وعدم الانخراط في اللعبة الأمريكية المبهمة. في لحظة مفصلية يجب إعادة ترتيب البيت الكردي في سورية وإعادة رسم خارطة جديدة للتحالفات داخل الطيف السوري. فلا كانتونات شرق الفرات تحقق أحلامنا ولا دكتاتوريات غرب الفرات قادرة على عن أن تجيب على الأسئلة الجوهرية التي ينبغي الإجابة عنها والخروج من هذا الجحيم الأرضي. فالقضية أكبر من شرق الفرات وغربه...
في انتظار أسئلتكم المحرضة على النهوض ورفض المعادلات غير المتعادلة.

قامشلو 12/10/2018

................
قلعة الرحبة، بجوار مدينة الميادين الحالية، غرب نهر الفرات بمحافظة دير الزور.
ابن فضل الله العمري. التعريف بالمصطلح الشريف. ص 59