تقزيم المسألة السورية في قالب (صياغة الدستور)

تقزيم المسألة السورية في قالب (صياغة الدستور)

Aug 15 2018


د.آزاد أحمد علي
منذ عدة أشهر لم أنشر أي مقال رأي أو حتى دراسة، ليس لعدم القدرة أو لأن معضلاتنا الملحة قد حلت وساد السلام والوئام فضلا عن انتشار الحريات في سورية، بل لأنني توصلت وبناء على تجارب سنين وعقود من العمل السياسي والعلمي أن ما نكتبه ليس له تأثير، وإن كان له، فهو محدود أمام بطش، جبروت وطوفان الأكاذيب الإعلامية الممنهجة، وبسبب هيمنة قوى الاحتكار والاستبداد وأدوات الرأسمال المتوحش، فالرأسمال المسلح. لكل ذلك يتصدر سلوكنا مؤخراً أسفٌ وحزنٌ عميق لما آلت إليه الأمور ومن ضمنها عدم جدوى (الكتابة).
ولولا إصرار الصديق الحالم فاروق حجي مصطفى، الذي يعمل جاهداً على تحشيد المختصين في خضم معركة الدستور. لا شك أن الكتابة في موضوع دستور سورية الجديد هو واجب على الجميع، وإن لم يكن كل من يبدي الرأي اختصاصياً أو خبيراً في الحقل القانوني والدستوري. فإبداء الرأي بتفاصيل الدستور وديباجته العامة أو حتى في روح الدستور نفسه وتوجهاته المستقبلية، يبدو واجباً بسيطاً.
لكن ما يؤسف له في المقام الأول، وما يستحق التوقف عنده مطولاً هو الخطأ الجسيم الكامن في القبول بما آلت إليه المسألة السورية، التي تحددت، قزمت وأفرغت من محتواها ورسمت مسارها من قبل غير السوريين. فمن دواعي الأسف أن تُختزل المسألة السورية في كيفية صياغة الدستور! فكيف تم إزاحة كل القضايا الجوهرية المولدة للحرب والعنف والإكتفاء بالجانب الدستوري. أيضاً من المؤسف أن توجه مسار السجالات والحوارات نحو (من سيمثل ومن سيشارك)؟ في حركة خبيثة للقفز فوق المسألة الأساس، أي ما هو مصير السلطة القائمة؟ وكيفية الإنتقال لحكم ديمقراطي مدني وطني حر وذات سيادة في المحصلة؟
ما هو شاذ أن تتركز المسألة السورية بعد كل هذه الكارثة البشرية، بعد سنوات الحرب الظالمة على الشعب السوري في جوانب وخطوات هي شكلية. ليس لأن الدستور غير مهم، بل لأنه لم يكن مهما في يوم من الأيام في سورية، وسوريا تحكم منذ عقود بالمراسيم وبالقوة العسكرية – الأمنية الأيديولوجية. هكذا ببساطة كيف سيتم طي صفحة الأساسيات، صفحة الحقوق، حقوق البشر الضحايا وذوي الضحايا، حقوق الأيتام، حقوق من يعيش بألم وحسرة داخل سورية اليوم. أي منزلق هذا الذي سيتم عبره إخفاء جذر المشكلة وأسه... هكذا ببساطة، ويتم الحديث عن (كتابة دستور) وكأن الشعب السوري انتفض ليعدل الدستور، وكأن الحكومات السورية العسكرية – الأمنية كانت ملتزمة بالدستور وظهرت فيه بعض المشاكل التقنية أو مواضع ضعف أثناء التطبيق. حيث ومع مرور الزمن تبدل أحوال البلد والمجتمع سلمياً وموضوعياً.
لا يمكن الإقرار والإنزلاق إلى هكذا منزلق، كأن النخب السورية ساذجة، وجماهير البلد مهابيل ليصدقوا أن حل المسألة السورية يكمن في كتابة دستور جديد، هذا الدستور البلسم الشافي الذي سيكون بالضرورة والحال هذه مجرد (تعديلات دستورية). فهل سبق لمجتمع أو شعب على وجه الكرة الأرضية تعرض لكل هذا العنف وبلد تعرض لكل هذا الخراب وقدم كل هذه التضحيات غير المسبوقة في التاريخ مقابل (تعديل دستوري)؟!
الحقيقة واضحة ومرة لدرجة لم يعد بالإمكان الحديث و التوقف عندها مطولا.
باختصار شديد: لا معنى لأي دستور إلا إذا كان جديداً، مصاغ على شكل عقد اجتماعي وسياسي جديد ومتطور، ينظم الحياة العامة وخاصة السياسية وعملية تداول السلطة وتوزيع الصلاحيات فالثروة بين كل الشرائح الاجتماعية أفقيا، وبين سائر المناطق في المركز والأطراف، لتأمين العدالة والتوازن وكذلك إعادة اللحمة إلى المجتمع السوري المهشم ضمن دولة مدنية هي سورية المستقبل. بمعنى آخر يكون دستورا يقره المختصون ويجمع عليه كل الأطراف على أنه السبيل الوحيد لجمع السوريين تحت سقف واحد ويغلق الباب على مسببات هذه الحرب الكارثية، حتى يتم قطع جذور الاستبداد وتجفف منابع الإرهاب. المطلوب دستور استثنائي لبلد استثنائي ينهي حرب استثنائية. ولن يتحقق ذلك إلا بصياغة سورية يخطها شخصيات نبيلة ومتخصصة في بيئة حرة ومحايدة، بضمانات دولية وإقليمه أيضا استثنائية، وإلا ليس للبحث والسجال في تفاصيل الدستور ومفرداته من أي معنى سوى نثر الرماد على رأس ما تبقى من السوريين الأحياء.