قصتنا وأبو الحارث..

قصتنا وأبو الحارث..

Mar 14 2020

سردار ملادرويش
(المنشور يعتبر شهادة من بين مئات القصص والشهادات هي لا تشمل حدث ١٢ آذار بل مجرد قصة منه لذا لا يتم اسقاطها بالعموم على الحدث لكن تؤخذ كشهادة فردية)
في اليومين التاليين لـ ١٢ آذار ٢٠٠٤ بعد تشييع شهداء الملعب بدأت الانتفاضة الكردية في سوريا، حيث أطلق الأمن السوري الرصاص على المشيعين وبات هناك ضحايا جدد.
في اليوم التالي التوتر مستمر في المنطقة، صباحًا نحو الساعة الحادية عشرة صباحًا تواجد محمود الناصر (أبو الحارث) في محل والدي، كان أبو الحارث مسؤولًا في أمن الدولة عن الملف الكردي، ومجيئة للسوق ومحل الوالد (ربما ذهب لأي محل) بدراية امكانية أن يكون هناك تحرك مناهض لفعل السلطة في مدن كردستان سوريا، طلب أم أجهز له القهوة، خلال تجهيزي القهوة سمع صوت هاتفه يرن، جاء الاتصال وعلى الفور انطلق أبو الحارث خارج المحل، حاول أبي الاستفسار عن عودته فقال سيعود، خرجت وأعلم أن هناك أجواء متوترة وأن سيكون هناك رد على فعل النظان بقتل المدنيين، وبالفعل عند تجوالي في السوق عرفت أن هناك تظاهرة قادمة من جهة شرق المدينة (الأكراد ينتفضون في كل المدن) لم تكن لوسائل التواصل تواجد كبير ولم يكن للهواتف المحمولة كثافة انتشار.
بعد نحو نصف ساعة وصلت التظاهرة لمنتصف السوق، قامت المحال الكردية بالإغلاق وعلى غرار ذلك غالبية السوق قام بالإغلاق حيث يخشى الجميع ردة فعل السلطة على تظاهرة الكرد، وصلت التظاهرة لحي المحطة غربي المدينة ثم عادت للسوق وصولًا للمصرف الزراعي لم يبق في المسير صورة ورمزًا للنظام وحزب البعث في المدينة، كانت ظاهرة لوحات "الفلكس" حديثة.
بعد ذلك توجه المتظاهرون باتجاه دوار الحسكة، هناك حيث تمثال لحافظ الأسد تم كسر التمثال، سألت ابن عمي وهو يكبرني ماذا سيحدث بعد هذا فأجاب (كردستان) لم تكن الفرحة والنشوة تجعنا نفكر بالعاقبة خاصة أن النظام السوري لم يتحرك ضد المتظاهرين حتى مرور المتظاهرين بجانب مفرزة أمن الدولة لم يسفر عن تصادم عنيف فالعناصر لم يقوموا بأي ردة فعل وكذلك عند مخفر البلدة وقسم الجنائية المتلاصقان تم إغلاق الأبواب وعدم الاعتراض على المتظاهرين!.
بعد انتهاء الحشود كانت الأخبار تأتي من مدن أخرى حول الحشود من الأكراد يتظاهرون في مدنهم امتد هذا لكافة المدن السورية حيث تواجد الكرد ووصل لأماكن حساسة مثل الجامعات وخاصة حلب ودمشق وحتى داخل حرم المدينة الجامعية.
بعد عودة الكرد في مدينة سري كانيه\ رأس العين، لمنازلهم، كان هناك تخوف على المدينة وأيضًا مدينة الحسكة نتيجة تواجد كثيف لخليط متنوع في المدينة وبالفعل تمام الساعة الثانية والنصف ظهرًا، كنا في المنزل (ساعة الغذاء) تم الاتصال بوالدي من مشفى السلام المقابل لمحل والدي في حي الكنائيس، الخبر (ابو سردار لا تترك المنزل فقد تم تفريغ المحل وسرقة كل ما فيه من قبل عرب حرضهم النظام عبر شعبة الحزب) كان كلام صديق الوالد من المشفى نصيحة بأن لا يأتي أحد منا فاللصوص الذين يسلبون محال الكرد في السوق مسلحين ومحصنين من قبل الأمن والسلطة.
كان على إثر خروج الكرد جرى اجتماع أمني في المدينة بين الجهات الأمنية ومدير المنطقة وشعبة الحزب وتكفل الحزب بتجميع "عرب" من المدينة وريفها وسلمهم السلاح ليكونوا الحصن المدافع عن النظام فكانت البداية من السرقة والنهب والسلب.
جميع محال الكرد وسط المدينة باتت عرضة للسرقة والنهب والسلب وحتى الأن غير مقيدة في سجلات الدولة.
لم تكتف السلطة بذلك بل أرسلت الغوغاء باتجاه الأحياء الكردية، كان أول الضحايا هو تواجد الحكم الدولي "الاستاذ عبد القادر محمد علي بافي ولات"، عندما حاول الوصول للسوق لمنع العرب الذين حرضهم النظام وشعبة الحزب من السرقة وايضا للوصول للمركز الثقافي لاخراج عائلة صديقه الغائب عن المدينة، لكن اعتقل هناك بتهمة انه قادم لتفجير المركز وهو يدفع ثمن ذلك اليوم حتى الان بأضرار نتيجة اعتقال وتعذيب كبير إضافة لاعتقال شباب وأطفال من المدينة.
كانت ردة الفعل كبيرة جدًا يقال إن الشخص الذي جمع الناس في شعبة "ماجد الحلو" أمسك السلاح وقال "الكراد بالو على تمثال الرئيس ونحن نريد نحمي الدولة"، ولد ذلك احتقان كبير في المدينة عبر تسليح العرب ضد الكرد العزل، بقيت المدينة في توتر كبير لشهور، وبدأ مسلسل الاعتقالات مع قدوم فرقة خاصة من دمشق حاصرت المدينة، كل يوم نستفيق على خبر اعتقال العشرات من أبناء المدينة وهذا ينطبق على مدن أخرى بالطبع.
كان فرع أمن يستلم ملف اعتقالات لاسابيع ينتهي منه فيستلم فرع أخر أيضًا الملفات، في تلك الفترة أصبح الشباب ينامون في النهار ويتحضرون في الليل ينتظرون مصيرهم نتيجة كثافة المداهمات في الليل، كان والدي يخشى كثيرًا وصول اسمائنا وبالفعل كان هناك اسمي واسم شقيقي الصغير بين الاسماء لكن ملفات الأمن الاولى تجاوزتنا ثم في ملف أمن الدولة تم استدعائي.
في فترة المداهمات بقيت نحو ١٧ يوم في منزل ابو ولات (زوج عمتي) برغم كان اكثر مكان من الممكن ان يكون مراقب ومكشوف، لكن على مبدأ ان المكان المكشوف هو الأمن وللقدرة على الهروب لحي أخر من المنزل وايضًا للبقاء مع ابو ولات الذي كان يحتاج المساعدة والرعاية نتيجة عدم القدوة والقوة.
عند استدعائي جاءت دورية امن دولة للمنزل وطلبت حضوري، كان الجو العام والنفسي سيء الناس تنتظر مصير مجهول، اصبح الذهاب للامن راحة غير مقلقلة بقدر القلق الذي نعيشه كل يوم بانتظار مجهول قد يأتي خاصة أننا بدأنا نسمع قصص تعذيب لخارجين من السجن بينما معتقلين أخرين أصبحوا في دمشق وكان هناك تخوف كبير من أن يكون مصير المعتقلين المجهول!
في المساء قمت بتجهيز نفسي والذهاب لفرع أمن الدولة، كان ملف أمن الدولة الأخير بين الملفات التي قامت الأمن بالاعتقالات من خلالها، وأنا ارتدي لباس سميك وبدل البنطال اثنان وبدل الكنزة اثنتان.... الخ.
استجوبني رئيس المفرزة ابو وائل للتحقيق وكانت عيناي مغلقة بعد ذلك لكنني اسمع صوتهم، كان واضح ان لا اتهام مباشر سوى المشاركة في التظاهرة، تم تخويفي بجهاز الكهرباء دون استخدامه ثم رأيت نفسي انساب لدولاب صغير وعيناي مغلقة عند الضرب كان هناك من يقول لي "يا ابني اعترف وارحم حالك" كنت اسمع صوت ابو الحارث لأنني اعرفه وجميع من في البلد يعرفه تمامًا بحكم أن ابو الحارث عنصر قديم في امن الدولة في المدينة وفي الاساس بحكم اشرافه على الملف الكردي لديه تواصل مع الكرد في المدينة، عند سماع صوته اجبت "عمي ابو الحارث انت كنت بالمحل عنا وانا اجهز القهوة" فصرخ "مين ابو الحارث ولاك" واكمل الضرب، لم اكمل ساعات حتى تم استدعاء والدي وخرجت كان نصيبي ونصيب بعض الشباب في تلك المرحلة قليلة مقارنة بما لحق بشباب في المدينة من آذى واعتقال مستمر البعض لشهور والبعض لاكثر من سنة حيث كان التفكير بخروجهم للحياة مجددًا مستحيل!
حقيقة لا انكر أننا كنا متهورون في الشباب ولدينا عناد كبير فلم اتقبل فكرة ما حصل بعد نحو سنة خلال مرور ابو الحارث من السوق انا ووالدي امام المحل ظهر انه قادم باتجاهنا فحذرني ابي من اي تصرف دخلت للمحل وعند وصوله لم استطع ان ارد السلام ورفضت المصافحة (حقيقة لم تكن سوى ردة فعل بدون اي دراية بالنتائج) لكنه تفهم الامر وقال لوالدي "جيد ان ابنك لم يعترف".
التقيت باسطنبول بابو الحارث في عام ٢٠١٤ خلال تغطيتي لنشاط للمعارضة كان في الاوتيل الذي يقام فيه النشاط على مدى ايام لم استطع النظر له وانا في حالة غليان حقيقة وفي اليوم الثالث اصبحنا في ممر وجها لوجه طلب المصافحة فرفضت كنت ارفض تمامًا فكرة ان يتحول هذا الانسان لمعارض فالرجل تربى باخلاص في افرع الأمن والصورة الذهنية لدينا لا تستطيع تصور ان يتحول ابو الحارث لرجل ديمقراطي ومعارض وبالفعل قصة تحوله للمعارضة بالاساس غامضة حتى اليوم لا يستطيع ابناء مدينة سري كانية وانا متاكد من تقبل فكرة ان يتحول هذا الرجل للمعارضة وان يترك الولاء والاخلاص للنظام السوري! في حين أن الرجل اليوم يعتبر رمزًا للثورة وشاهدًا على عصر ضد الكرد دون أن يَسأل عن الدور الذي قامه بهد لعقود في اضطهاد السوريين.
الرحمة لجميع شهداء انتفاضة اذار ٢٠٠٤

١٣ اذار\ مارس ٢٠٢٠