ثوابت الحرب على إدلب ومسارها

ثوابت الحرب على إدلب ومسارها

Aug 23 2019

أكرم البني*
لعل أول الثوابت وأهمها في حرب النظام السوري وحلفائه على جماعات المعارضة المسلحة في مدينة إدلب وأريافها، هو انعدام أي فرصة للتعايش أو لهدنة مستقرة بين الطرفين، فالأول لم ولن يبدي أدنى استعداد للاعتراف بالآخر المختلف، فكيف بمساكنته، ولنقل، على العكس، هو مستعد ومتمرس للذهاب إلى أبعد مدى في تدمير البلاد وقتل العباد لتصفية كل من يعترض على تفرده بالسلطة، بينما بات الطرف الآخر رهينة لدى «جبهة فتح الشام»، المحسوبة على تنظيم «القاعدة»، والتي دون مشروعها الإسلاموي المتشدد لا تقيم اعتباراً لأحد.
الثابت الثاني، أن إدلب باتت الملجأ الأخير للهاربين من أتون العنف، وأكبر تجمع مدني ومسلح يناهض النظام السوري، ففيها نحو أربعة ملايين مدني من اللاجئين والنازحين، نصفهم من المهجّرين جراء التسويات التي تمت في حمص وحلب ودرعا والغوطة الشرقية، أو العائدين، طوعاً وقسراً، من تركيا، وهناك ما يقارب ستين ألف مسلح من عناصر المعارضة، تمرسوا بالقتال لسنوات كثيرة، وليس أمامهم خيار إلا الموت بعد أن غدت إدلب ملاذهم الأخير، وهذا ما يشي بأن هذه الحرب ستكون طويلة ودموية ومكلفة.
والثابت الثالث، هو الإهمال والاستهتار الدولي بتلك الحرب على الرغم من القصف العشوائي الذي يطال المشافي الميدانية ونقاط الإسعاف والمدارس، وحتى مراكز توزيع معونات الإغاثة وتجمعات النازحين في العراء، زاد الطين بلة، تقدم الأفكار الشعبوية عالمياً وما فرضته من قيم أخلاقية عمّقت النزعات الأنانية، والتقوقع حول الذات، والاستهتار بحيوات الآخرين، وبالحقوق الإنسانية الموحدة للبشرية.
الثابت الرابع، أن الحرب على إدلب صارت بكل المواصفات حرباً إقليمية وعالمية في آن، ربطاً بتعدد التدخلات العسكرية الخارجية في الصراع السوري، وبطرفين داخليين باتا خاضعين لإملاءات الداعمين وعاجزين عن لعب دور مستقل، والقصد أن ثمة احتمالاً بأن تمتد نيران هذه الحرب وتأخذ أشكالاً من المواجهة الإقليمية، أو على الأقل بأن تفضي نتائجها وتداعياتها إلى تحديد تسوية جديدة من العلاقات والتأثير بالصراع السوري بين قوى إقليمية وعالمية متعددة، بدءاً بأميركا وروسيا، مروراً بأنقرة وطهران وإسرائيل، وانتهاءً بالصين والدول العربية والأوروبية.
وتأسيساً على ما سبق نقف أمام احتمالين لمسار الحرب التي تستعر، منذ أسابيع، وتتصاعد في أرياف إدلب الشمالية والجنوبية.
الأول، أن يكون التصعيد العسكري الراهن عتبة لهجوم شامل يستهدف إعادة كامل محافظة إدلب إلى سيطرة النظام، وفرض تسوية على الفصائل المعتدلة الموجودة فيها بقوة النيران، والقضاء تماماً على من يرفض منها وعلى الجماعات الجهادية على حد سواء، بما في ذلك تحجيم دور أنقرة التي منحت الكثير من الوقت ولم تفِ، وربما لم تكن تريد الوفاء، بالتزامها، أمام شركاء آستانة، بضبط مناطق خفض التصعيد والفصل بين المعتدلين والمتطرفين، وحل مشكلة عناصر «هيئة تحرير الشام» وغيرها من الجماعات المتشددة، زاد الأمر سوءاً انتقال الكثير من عناصر تنظيم «داعش» إلى إدلب بعد هزيمتهم شرق البلاد وتنامي دورهم فيها، لكن ما يعترض هذا الاحتمال ويضعفه أنه يحمل خطورة كبيرة على استقرار المنطقة، والأهم على مستقبل حزب «العدالة والتنمية» المأزوم، والذي تتحسب حكومته من الانزلاق إلى حرب غير متكافئة، حتى وإن أظهرت بعض العزم العسكري، إنْ في تكثيف طلعات سلاح الجو وإنْ بدفع وحدات عسكرية من الجيش التركي لدعم مراكز المراقبة على مشارف بلدتي خان شيخون ومورك، ويزيد من ضعف هذا الاحتمال، أن النظام والميليشيا الإيرانية لا يملكان قدرات بشرية كافية، في هذه المرحلة على الأقل، لشن هجوم شامل ومكلف، وربما يفضي إلى مجازر وحمامات دم وموجات نزوح غير مسبوقة، والأهم لأن ما يظهر من حسابات موسكو أنها لا تريد حرباً واسعة تفضي إلى قطيعة نهائية مع أنقرة، بل تميل لمنح الأخيرة وقتاً إضافياً للاستمرار في جهود عزل المتشددين وتفكيك تنظيماتهم، يحدوها حرص لافت على إفشال التقارب بين أنقرة وواشنطن بعد ما أثير عن تقدم التوافق بينهما على المنطقة الآمنة، وعلى الإفادة من الدور التركي للتضييق على النفوذ الإيراني في سوريا، عدا عن أنها خير من يدرك بأن مشروعها للتسوية السياسية في سوريا، لن يكتب له النجاح والاستقرار، إن لم يتلق دعم أنقرة ومساندتها.
والمسار الآخر، أن تكون العمليات العسكرية الراهنة حلقة من سلسلة طويلة من المعارك المبنية على استراتيجية القضم البطيء، وغرضها اليوم، من جهة، تشديد الضغط على تركيا وفصائل المعارضة السورية القريبة منها لإضعاف أوراقها في مفاوضات تقاسم حصص المستقبل السوري ودفعها لمواجهة الجماعات المتشددة، ومن جهة ثانية، السيطرة على مزيد من الأراضي التي تحيط بإدلب لإبعاد الفصائل المتطرفة أكثر صوب الشمال وتأمين قاعدة حميميم الجوية والقسم المتبقي من الطريق الدولية بين مدينتي حلب ودمشق، ومن جهة ثالثة، تبديل المشهد السوري، بعد أن أدركت السلطة وحلفاؤها عدم كفاية «الانتصارات» التي يتغنون بها لتليين الموقفين الغربي والعربي، اللذين كانوا يعولون عليهما، للشروع بإعادة إعمار البلاد وتأهيل نظام بات يعاني من وضع اقتصادي مذرٍ.
وهذا المسار يعني عملياً، استمرار اتفاق خفض التصعيد الذي ترعاه روسيا وتركيا، لكن بمقومات جديدة، جوهرها، تثبيت الالتفاف على مفاوضات جنيف وإجهاض فرصة الإشراف الدولي على الحل السياسي، وثمنها، مقايضة يرجح أن تكون مضمرة، تتلخص بتعويض سيطرة النظام وحلفائه على مساحة جديدة من أرياف إدلب، مقابل تمرير رغبة حكومة أنقرة في إقامة منطقة آمنة تمكّنها من إبعاد التهديد المتمثل بوحدات حماية الشعب الكردية، وتمنحها حجة وخياراً قويين لتشجيع اللاجئين السوريين على العودة وتوطينهم فيها، ويصب في هذا المسار، ما أثارته تقارير صحافية تركية عن وجود تفاهم مع الجانب السوري على المنطقة الآمنة بوساطة روسية، وأيضاً ما سرب من معلومات عن تبلور اتفاق بين واشنطن وأنقرة لإقامة منطقة آمنة.
واستدراكاً، إذ يصح القول بأن الحملات العسكرية على إدلب لن تتوقف، بل ستكون أكثر تواتراً وأشد فتكاً وتنكيلاً، يصح تالياً القول بأن محنة السوريين لن تنتهي، بل سوف تتخذ أشكالاً أكثر ألماً وقهراً، في ظل تواطؤ وصمت دوليين بغيضين.
*كاتب سوري
المصدر :الشرق الاوسط