السويداء بعد 12 عاماً على الصراع.. تحولات العلاقة مع دمشق وفعالية أدوات السيطرة

السويداء بعد 12 عاماً على الصراع.. تحولات العلاقة مع دمشق وفعالية أدوات السيطرة

Aug 10 2023

شهدت العلاقةُ بين مركز السلطة في دمشق ومحافظة السويداء خلال فترة الصراع الذي تعيشه البلاد منذ أكثر من عشر سنوات تحولات عدة وتغيرات في خرائط ومراكز القوى وتموضعاتها وتحالفاتها، فرضتها ديناميات الصراع وتوجهاته. فالمحافظة الحدودية ذات الأغلبية الدرزية لم يشفع لها موقف الحياد الذي اتخذته إزاء الحرب السورية التي اندلعت في مارس 2011، إذ إنها لم تبقَ في منأى عن المعارك والاشتباكات في أكثر من مناسبة خلال فترة الصراع، علاوة على ذلك فهي تعيش تحت وطأة فلتان أمني، وانتشار للجريمة والمخدرات. يحدث كل ذلك في ظل تراجع كبير لدور الدولة الحمائي، وعجز شبه تام للحكومة عن توفير حلول لتردي الأوضاع المعيشية والإنسانية، ووسط انحسار القبضة الأمنية للسلطة، وبروز لاعبين آخرين على الساحة السورية. بالرغم من كل ذلك، لا تزال دمشق هي المرجعية الأساسية للسويداء، سياسياً واقتصادياً.

تبحث هذه الورقة في العلاقة بين دمشق والسويداء ما بعد عام 2011، من خلال تناول التحولات التي طرأت على طبيعة وشكل العلاقة بينهما بفعل ديناميات الصراع، ثم توصيف فعالية أدوات السيطرة للحكومة في هذه المرحلة، وأثرهما المباشر على المجتمع في السويداء.

تمهيد

يمكن النظر تاريخياً إلى العلاقة بين دمشق والسويداء وفق نظرية المركز والأطراف، وما يتصل بذلك من تباين وتجاذب بينهما، تحددها الديناميات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ضمن سياقاتها التاريخية. حظي المجتمع الدرزي بمكانة خاصة عبر تاريخ سورية، ليس بسبب خصوصيته الطائفية فحسب، بل أيضاً نتيجة لدوره المهم في صياغة تاريخها إبان تشكل الدولة الوطنية، إذ تميّز سلوك الدروز في تاريخ سوريا الحديث بغلبة النزوع الاندماجي لديهم في الإطار الوطني، واحتضان الأكثرية لهذا النزوع، وحرصها على حضورهم السياسي في المشاريع الكبرى بتمثيل يفوق وزنهم الديمغرافي.

إلا أن هذا الحضور بدأ يتضاءل بعد انقلاب حزب البعث عام 1963، ليصبح هامشياً بعد وصول حافظ الأسد إلى سدة الحكم، عبر نهج وسياق عام للدولة يتسم بفرض السيطرة على المجتمع السوري باستخدام جملة من الأدوات والوسائل، من أهمها: الأدوات الحزبية، والوسائل الأمنية والعسكرية،فضلاً عن التحكم في الموارد الاقتصادية واحتكار توزيعها، وبناء شبكة من الولاءات داخل مؤسسات الدولة وخارجها.

تحولات العلاقة بين دمشق والسويداء بعد 2011

لقد أخفى مشهدُ الحياد النسبي لمحافظة السويداء إزاء الحرب السورية، العديدَ من التحولات في مسار الخط البياني للعلاقة مع دمشق، فضلاً عن التغيرات التي طرأت على خرائط القوى (تموضعاتها وتحالفاتها) بفعل ديناميات الصراع. فقد كانت استراتيجيات الحكومة ترمي إلى إحكام السيطرة على المحافظة بهدف توظيفها في المعركة ضد القوى والفصائل المعارضة لها، من خلال الأدوات الآتية:

1. الأداة الأمنية والتعامل مع الحركات المناوئة (الاحتجاجات والمجتمع المدني والفصائل المسلحة)

لم تتأخر السويداء عن الالتحاق بحركة الاحتجاجات التي انطلقت في درعا في مارس 2011 وانتقلت فيما بعد إلى المحافظات السورية، فقد استشعرت بعض النخب المثقفة من فئة الشباب وبعض المعارضين المنتمين للطائفة الدرزية أهميةَ وضرورة الانخراط فيها.[i]إلا أنه وفي الوقت ذاته، لم يحظَ هذا الحراك بتأييد شعبي واسع، فغالباً ما كان يقتصر على عشرات الناشطين والمئات في بضع مناسبات. يرجع ذلك إلى عدة عوامل، بعضها مرتبط بطبيعة مسار الاحتجاجات السورية، في حين ترتبط العوامل الأخرى باستخدام الحكومة آليات السيطرة التي طورتها وأتقنتها على مدى العقود الماضية.

بدايةً، شهد الحراك تحفظ الكتلة الاجتماعية في السويداء عن المشاركة بسبب توجسها من قيادة الإسلاميين له، وتَعزز ذلك التحفظ بعد تحولاته نحو العنف المسلح- المضاد لعنف السلطة -من جهة، ونحو ما أُطلق عليه "أَسْلمة الثورة" من جهة أخرى، حيث لا تستطيع السويداء الذهاب في مشروع إسلامي عاجز عن توحيد جميع السوريين.[ii] يضاف إلى هذه العوامل، تخوف أهل السويداء من ممارسات النظام المتمثلة بالقمع الممنهج ضد المحتجين في أنحاء سورية.

واستعانت الأجهزة الأمنية بما يمكن تسميته "مجتمع السلطة"[iii] الذي نواته الجيش والمخابرات، وشبكة الحلفاء المحليين المتمثلة بالسلطة الدينية والزعامات التقليدية بالإضافة إلى فئة رأسمالية المحاسيب[iv] التي ساهمت بتمويل الميليشيات المؤلفة من مدنيين متعاقدين ومنتفعين، والذي كان متأهباً دوماً (مجتمع السلطة) لمناهضة من يهدد الحكومة وامتيازاتهم. وقد استخدمته الحكومة للتعامل مع احتجاجات السويداء، كأحد استراتيجياتها في التعاطي الحذر مع المظاهرات في مناطق الأقليات خشية توسع رقعة الاحتجاجات، فقد عملت الأجهزة الأمنية من وراء الكواليس دون أن تتدخل بشكل مباشر وعنيف للتصدي للمظاهرات، لكنها في الوقت ذاته لم تتوانَ عن ملاحقة الناشطين واعتقالهم.

في المحصلة استطاعت الحكومة استثمار جميع هذه العوامل في إيقاف حركة الاحتجاجات في السويداء بشكلها السائد نهاية العام 2012، إلا أن هذه السنوات الأولى (2011-2012) وضعت حجر الأساس في تمكين المجتمع المحلي لجملة من المفاهيم والحقوق وآليات التعبير السلمي، ظهر ذلك جلياً من خلال موجات الاحتجاجات المتقطعة التي اندلعت بدءاً من العام 2015 وحتى العام 2022 على خلفية تردي الأوضاع المعيشية والخدمية والأمنية والسياسية. جاءت هذه الاحتجاجات في سياق ضعف النظام العام بسبب الحرب الدائرة في سورية، وانحسار مجتمع السلطة مع تحوّل في مواقف بعض الحلفاء المحليين للحكومة، مثل مشيخة العقل والزعامات التقليدية التي ساندت الحكومة ووقفت بمواجهة احتجاجات 2011 -2012، إلى مواقف الحياد في معظم الاحتجاجات وصولاً إلى تأييد بعضهم لها.

بقيت الحكومة تعوّل على أداة العنف، وما بقي من "مجتمع السلطة"، لمواجهة المظاهرات منذ 2015. فقد أرسلت تعزيزات أمنية من دمشق في بعض المراحل، كما نفّذت حملة اعتقالات بحق المتظاهرين، علاوة على اتخاذ مجموعة من الإجراءات الأمنية، مثل إصدار مذكرات توقيف ومنع السفر وملاحقات أمنية بحق ناشطي منظمات المجتمع المدني التي بدأت تتشكل بعد عام 2011 وتضطلع بدور فاعل في المجال العام ضمن برامج التمكين والتوعية والحماية وسبل العيش وبناء السلام.

من الجدير الإشارة إلى أن أدوات سيطرة الحكومة شهدت تحولاً جوهرياً في هذه الفترة، سببه ضعف شمولية أداتها الأمنية على المحافظة، تمثلت في استهداف مجموعات أو شخصيات بعينها وعدّها مصدرَ تهديد للنظام العام في المحافظة. ظل هذا النهج قائماً حتى اليوم، نظراً لأن الحكومة لم تستعد عافيتها وقدراتها الأمنية والعسكرية للسيطرة، ولعل التعامل مع حركة رجال الكرامة أبرز مثال على هذا التحول.

تأسست الحركة عام 2013 على يد رجل الدين الشيخ أبو فهد وحيد البلعوس، بمباركة من المرجعية الدينية الشيخ راكان الأطرش المؤيِّد إبقاء أهالي السويداء على الحياد،[v] وهي حركة اجتماعية مسلحة محلية الطابع، وتُعتبر من أكبر الفصائل المسلحة في المحافظة وتمتلك وجوداً في غالبية مناطق السويداء. تشكلت الحركة بهدف منع الحكومة من زج أبناء المنطقة في الحرب السورية، من مبدأ "دم السوري على السوري حرام"، بالإضافة إلى حماية حالة الحياد التي اتخذتها السويداء من الحرب، سيما أن المرجعية الدينية، أي مشيخة العقل، انحرفت عن مسار الحياد -بحسب رأي الحركة- وتماهت مع خطاب الحكومة السورية في العديد من المواقف.

اتخذت الحركة من شعار "حماية الأرض والعرض" بوصلةً لعملها، تمثل ذلك في مواجهة المحاولات الإيرانية لنشر التشيّع في السويداء وتشكيل ميليشيات محلية تابعة لـ"حزب الله" اللبناني، إلا أن هذه المحاولات قوبلت برفض شعبي واسع، بالإضافة إلى حماية المواطنين الدروز من الاعتقالات على الحواجز والضغط للإفراج عن المعتقلين على خلفية الحراك، وحماية المحافظة من أي أخطار خارجية، ما يعني ضمناً عدم استجداء الحماية من أحد، سواء كانت إيران أو أي قوة إقليمية أخرى، والانعتاق من المتاجرة بشعار "حماية الأقليات"، سيما أن الحركة تؤمن أن حماية السويداء تنبع من بناء تفاهمات وطنية مع السوريين.

من ناحية أخرى رأت مشيخة العقل (ممثلةً بحكمت الهجري، ويوسف جربوع، وحمود الحناوي) في الحركة تحدياً لسلطتهم وتأثيرهم على المجتمع الدرزي، الأمر الذي جعلها تجتمع في موقف نادر وتتوافق على إصدار بيان "حرم ديني" بحق الشيخ البلعوس. [vi]

من نافل القول إن صعود وحيد البلعوس شكّل تهديداً للتحالف التاريخي بين السلطتين السياسية والدينية، على اعتبار أنه رجل دين كما أن كاريزما القائد الشعبي التي تمتَّع بها البلعوس كانت قادرة على جذب شرائح كبيرة من أبناء السويداء والالتفاف حوله كقوة عسكرية مدعومة مجتمعياً تشكل تهديداً للسلطة وتتعارض مع استراتيجيته في إبقاء السويداء ضعيفة وبحاجة للحماية.

مع اغتيال البلعوس في 4 سبتمبر عام 2015 بانفجار استهدف موكبه في محافظة السويداء، حيث وجّه أنصاره الاتهام إلى الأجهزة الأمنية بأنها وراء عملية الاغتيال[vii]، أثبتت الحكومة أنها لاعب أساسي في المحافظة، حتى لو لم تسيطر عليها بالكامل، وأن لديها القدرات الأمنية لاستهداف أولئك الذين يهددون دورها المركزي، كما أنه ساهم في استمرار تحالف السلطتين السياسية والدينية عبر الاستثمار في دور مشايخ العقل الذي تَعزز خلال الحرب.

2. ديناميات بناء التحالفات الاجتماعية- مشيخة العقل نموذجاً

عملت السلطة على استمالة الدروز (كأقلية)، عبر تمتين العلاقة مع مشيخة عقل الطائفة (الرئاسة الروحية للطائفة)، والتي تضم ثلاثة شيوخ، هم: حكمت الهجري، ويوسف جربوع، وحمود الحناوي، مع حرصها على ألا تكون هذه الهيئة منسجمة ومتماسكة ومتوافقة في قراراتها، خشية الانقلاب عليها؛ فعملت على تعزيز حضور أكبر للهجري، وإبراز دوره كرئيس روحي للطائفة، من خلال التجاوب معه في تلبية تدخلاته لصالح أبناء الطائفة بغية تقديمه بوصفه مرجعية أولى وممراً وحيداً للوصول إلى صانع القرار على حساب جربوع والحناوي. واستفادت السلطة من دور الهجري في احتواء المظاهرات ودعوة الشباب إلى الالتحاق بالخدمة العسكرية والمطالبة بتسليح الطائفة الدرزية عام 2015.

إلا أن هذه العلاقة تدهورت في إثر انقلاب الشيخ الهجري على الحكومة، حيث بدأت مواقفه تتراجع مطلع 2021 بعد ما وجّه رئيس فرع الأمن العسكري في السويداء لؤي العلي، إهانة له خلال اتصال جرى بين الطرفين، الأمر الذي أشعل ثورة غضب على مستوى الطائفة. ثم توالت مواقف الهجري ضد الحكومة السورية من خلال تأييده للاحتجاجات، وإصدار بيان وجَّه فيه انتقاداً للسلطة محمِّلاً إياها مسؤولية "ما آلت إليه أوضاع البلاد من فقر وجوع وفَلَتان أمني لم يعرف السوريون عبر تاريخهم مثيلاً له".

بالمقابل قامت الحكومة بإعادة تمتين علاقتها مع جربوع والحناوي، عبر انتهاج ذات المعادلة القديمة؛ أي إعطاء دور وامتيازات للشيخين وتحجيم للهجري، في مقابل استمرار تأييدهما لها. فعلى سبيل المثال، فور انقلاب الهجري، استجابت الحكومة لمقترح الشيخين الحناوي والجربوع بإجراء تسوية أمنية شاملة لجميع المطلوبين من أبناء السويداء، وتقديم تسهيلات إدارية كتأجيل لمدة سنة للمتخلّفين عن الخدمة الإلزامية التي أعلنت عنها الحكومة في أوائل أكتوبر 2022.

3. الاقتصاد والإدارة والخدمات

تراجَع دور الدولة الإداري والاقتصادي والخدمي في سنوات الحرب، وبخاصة في السنوات الأخيرة، وتراجعت معها القدرة على شراء الولاءات وبناء شبكات زبائنية عبر توظيف مؤسسات الدولة والمؤسسات الوسيطة. فمثلاً فقدت الإجراءاتُ التي كانت تتخذها الحكومة، كالتسريح والفصل التعسفي من الوظائف الحكومية بحق الناشطين والمعارضين أو غير الملتحقين بالخدمة العسكرية، فعاليتَها بسبب تراجع معدلات الرواتب في الوظائف العامة إلى ما يعادل 12 دولاراً في الشهر. لكنْ في الوقت ذاته استخدمت دمشق أدوات أخرى مؤثرة تزيد من اعتمادية السويداء عليها على الصعيدين الإداري والاقتصادي وسط غياب البدائل.

فعلى الرغم من إصدار قانون الإدارة المحلية بالمرسوم التشريعي رقم 107 لعام 2011، الذي يهدف إلى تطبيق لا مركزية السلطات والمسؤوليات، وإيجاد وحدات إدارية قادرة على عمليات التخطيط والتنفيذ للتنمية وتعزيز إيراداتها المالية، إلا أن القانون جاء مُفرغاً من مضمونه، بسبب مقتضيات السيطرة التي تتطلب الإبقاء على مركزية القرار الاقتصادي في دمشق، كآليات مساومة للأطراف لضمان استتباعها. فقد عملت الحكومة على ربط حقوق اقتصادية وإجراءات إدارية وشبه قانونية، مثل تنظيم الوكالات القانونية وعمليات نقل الملْكيات بإجراءات أمنية (الموافقة الأمنية)، وإجراءات اقتصادية تعسفية، بالإضافة الى وضع قيود على قيم الحوالات الداخلية وقيم السحوبات اليومية من المصارف.

كما قامت الحكومة بتقنين توريد المواد الأساسية اللازمة لحياة السكان بشكل يومي عبر طريق دمشق-السويداء، الأمر الذي يجعل أبناء المحافظة يعيشون قلقاً دائماً من قطع هذا الطريق وما يشكل تهديداً لأمنهم الغذائي، علاوة على الإتاوات التي تفرضها الحواجز على البضائع الواردة الى المحافظة، والتي تزيد من تكاليفها على المواطنين، بالإضافة إلى عدم تجاوب مع مطالب فتح معبر حدودي مع الأردن وهو ما من شأنها أن يخدم الحركة الاقتصادية في المحافظة، خصوصاً في الفترة التي كانت تسيطر فيها جبهة النصرة على معبر نصيب في درعا بين عامي 2015 و2018.

وبالمحصلة، بالرغم من تراجع القدرات الحكومية، تبقى محافظة السويداء رهينةً لدمشق التي مازالت تُعتبر العمق الاستراتيجي والحيوي الأساسي للمحافظة.

الوضع الأمني والاجتماعي منذ 2018

منذ عام 2018، وبشكل متزايد، كانت هناك ثلاثة محددات أساسية في العلاقات بين دمشق والسويداء: احتفاظ الحكومة بأدواتها القسرية في السويداء؛ والتدهور المستمر في الوضع الأمني وانتشار الفوضى؛ والتدهور الكبير في الظروف المعيشية والاقتصادية وتراجع أبسط الخدمات.

تَشي أحداث ما يطلق عليه "الأربعاء الدامي" بصعوبة التزام السلطة بدورها كحامي للأقليات، بعد تعرض السويداء إلى هجوم دامٍ لتنظيم "داعش" في 25 يوليو 2018 ، أسفر عن أكثر من 250 قتيلاً، وقيام التنظيم بخطف 36 مدنياً بينهم نساء وأطفال. تولى أهالي المحافظة والفصائل المحلية مهمة التصدي للهجوم وسط غياب تام للجيش السوري والقوات الأمنية.

زاد هجوم "داعش" من يقين أبناء المحافظة بأن السلطة غير قادرة على حماية أهل السويداء من أخطار خارجية كما كان في السابق، وأسهم في فقدان الثقة بدمشق ما أدى إلى تنامي عمليات التسليح بين المدنيين وتشكيل فصائل ومجموعات مسلحة تحت مسمى "بيارق" بهدف حماية الذات.[viii] توحد بعض هذه المجموعات ضمن تشكيلات على غرار تشكيل ائتلاف الشريان الواحد، ضمّ مجموعات مسلحة شبابية خارجة من عباءة حركة رجال الكرامة، وساخطة –بحسب زعمها– على خروج الحركة عن مبادئ المؤسس البلعوس بعد اغتياله عام 2015، واتخاذها خطاً مهادناً للسلطة. وأعلنت أن أهدافها حماية المحافظة من أي اعتداء خارجي ، كهجمات تنظيم "داعش"، والوقوف في وجه التعديات التي تقوم بها عصابات الخطف والسرقة، بالإضافة إلى منع القوات الحكومية من تنفيذ الاعتقالات بحق المطلوبين للخدمة العسكرية من أبناء المحافظة على الحواجز التابعة للقوات الرسمية. وقد لمع نجم نجل وحيد البلعوس ليث الذي أسس مع أخيه فهد فصيلاً تحت اسم قوات شيخ الكرامة، مُعلناً معارضته للحكومة وللمشروع الإيراني في المنطقة.

لم يقتصر غياب دور الدولة الحمائي في التهديدات الآتية من خارج المحافظة فقط، إذ تمثل أيضاً بغياب دورها في تطبيق القانون وملاحقة منتهكيه ومحاسبتهم، الأمر الذي نجم عنه حالة فلتان أمني وانتشار عمليات السطو والخطف مقابل فدىً مالية، وارتفاع في معدلات الجريمة وحصيلة ضحايا العنف من المدنيين، وفق ما ترصده وتوثقه شبكة السويداء 24 الإعلامية في تقاريرها السنوية.

لقد تأججت علاقة أهالي السويداء مع السلطة، وبخاصة الأمن العسكري المكلَّف بملف المحافظة، على خلفية الانتشار غير المسبوق لهذه العصابات وسط غياب الأمن والأمان، وأدى إلى اشتباكات عنيفة. وأبرز مثال على ذلك هو القضاء على أبرز هذه العصابات "حركة قوات الفجر"، التي أسسها أبو فجر، راجي فلحوط، واتخذ من بلدته عتيل، ومحيطها القريب، مقراً له. اتُهِمَت الحركة وقائدها فلحوط بأفعال إجرامية كثيرة، مثل فتح جبهات متعددة مع عشائر بدو السويداء والاتجار بالمخدرات وتصنيعها بالإضافة إلى عمليات الخطف واحتجاز المدنيين. في 27 يوليو 2022، انتفضت مجموعات محلية بالتعاون مع حركة رجال الكرامة وبعض الفصائل المحلية لمهاجمة مقراته وتصفية جماعته.

حمَلت هذه الأحداث تطورات مهمة على صعيد توازنات القوى المحلية، حيث أعلنت حركة رجال الكرامة كأبرز فصيل، بالإضافة إلى فصيل لواء الجبل الذي يقوده مرهج الجرماني وقوات شيخ الكرامة، أنهم "أخذوا على عاتقهم إعادة الاستقرار والأمان للمحافظة"، التي عانت خلال السنوات الأخيرة من "الفلتان الأمني" نتيجة انتشار المجموعات المسلحة. وأُطلقت حملة لاجتثاث المليشيات ، الأمر الذي أدى إلى بروز دور مدير "إدارة المخابرات العامة"، اللواء حسام لوقا، في ملف السويداء الأمني، على حساب رئيس "شعبة الاستخبارات العسكرية"، اللواء كفاح الملحم، الذي فشل في إدارة هذا الملف.

وفضلاً عن غياب الأمن، تُواجه شريحة واسعة من سكان محافظة السويداء أسوأ واقع معيشي على الإطلاق منذ عام 2011، حيث وصل الاقتصاد إلى أدنى مستوياته، مع تصاعد التضخم وتهاوي قيمة الليرة السورية، وغلاء الأسعار والنقص الحاد في الوقود والكهرباء ومياه الشرب بسبب قلة الأمطار وخروج 67 بئراً عن الخدمة، فضلاً عن تردي واقع قطاعات التعليم والخدمات العامة والبنى التحتية والتهديد بانهيار القطاع الصحي.

في وجه هذه التحديات، يُلاحَظ زيادة دور المجتمع بهدف إيجاد حلول ذاتية تدعم صمود حياة السكان. يأخذ هذا الدور أشكالاً مختلفة، أبرزها عبر تنامي الحركات الاحتجاجات في إثر تراجع الوضع المعيشي والاقتصادي؛ فمثلاً، شهدت السويداء احتجاجات غير مسبوقة على مدار أيام في فبراير 2022 بسبب تردي الأوضاع المعيشية، والتي تكررت في ديسمبر من العام ذاته. وبالتوازي مع الاحتجاجات المعيشية، تَطورت المبادرات الاجتماعية التي تقوم بها منظمات المجتمع المدني والمجتمع الأهلي، وزيادة اعتماد المجتمع على ذاته من خلال نوى التكافل الاجتماعي التي أسسها أبناء المحافظة المغتربين مع المقيمين، والتي لم تقف عند حدود الدعم الإنساني، بل تعدته للقيام بدور الدولة في كثير من الخدمات، مثل بناء وصيانة المدارس والمراكز الصحية، وإصلاح آبار مياه الشرب وتزويدها بالطاقة البديلة، بالإضافة إلى الأدوار التي تقوم بها الهيئات الاجتماعية لملء الفراغ الناجم عن ضعف مؤسسات الدولة، مثل نشوء ظاهرة القضاء البديل ولجان الصلح المحلية وفض النزاعات.

خلاصة واستنتاج

بعد أكثر من عقد من الحرب والدمار، والتراجع الهائل في قدرات الدولة، تبقى محافظة السويداء مرتبطة بدمشق، لسببين: الأول، نجاح الحكومة -رغم ضعفها- في الحفاظ على بعض أدوات السيطرة التي استعملتها في سبيل بقائها المرجعية الأساسية، أما السبب الثاني فيرتبط بقرار مجتمع السويداء وقياداته الذين يرون محافظتهم ضمن الدولة السورية ويرفضون الارتباط بأي مرجعية سياسية خارج حدود الدولة السورية.

لكنْ هذا لا يعني أن العلاقة بين الجانبين ستكون سلسة في المرحلة المقبلة، فقد لا يرغب أهل السويداء في تبديل مرجعيتهم، إلا أن ثقتهم بأن تقوم الدولة بالأدوار المناطة بها تراجعت، سيما أن التعافي الاقتصادي الحقيقي مستبعَدٌ على المديين القريب والمتوسط، وبالتالي يُرَجح أن يبقى الواقع الاقتصادي والمعيشي متردياً أو ربما قد يتراجع أكثر وسط غياب الحلول، الأمر الذي يجعل من العاملَين (الأمني والمعيشي الإنساني) محركاً رئيساً لإعادة رسم العلاقة مع دمشق.

[i] بدأت أولى المظاهرات في بلدة القريا (26 مارس 2011) في ذكرى وفاة سلطان الأطرش القائد العام للثورة السورية الكبرى، تلتها مظاهرتان في مدينة السويداء في 14 و17 أبريل من العام نفسه، ثم توالت المظاهرات في المحافظة والتي تركزت بشكل خاص في مدينتي السويداء وشهبا و بلدة القريا.

[ii] مقابلة أونلاين مع أ. منير الخطيب (باحث سياسي سوري).

[iii] انظر، جاد الكريم الجباعي، "المجتمع المدني والمجتمع الأهلي في سوريا"، مجلة عمران المحكّمة، العدد السابع، مجلد 2، شتاء 2014، ص 153.

[iv] "رأسمالية المحاسيب" تُعد شكلاً محدداً من الاقتصاد الذي يقوم على تبادل الخدمات والمنافع بين الطبقة السياسية الحاكمة ورجال الأعمال، حيث تمتلك الطبقة السياسية الحاكمة القدرة على تمرير تشريعات وقوانين تخدم سياقاً محدداً في الإنتاج، وهو ما يسمح لفئة من رجال الأعمال، تتصف بالقرب من الحلقة الضيقة للسلطة السياسية وتدين بالولاء لها، بالاستفادة من التشريعات والقوانين، ومراكمة ثروات مالية ضخمة تتشاركها مع النخبة السياسية.

[v] ركان الأطرش هو شيخ درزي يُعتبر من أرفع المرجعيات الدينية لدى طائفة الموحدين الدروز في سوريا ولبنان وفلسطين، توفي في السويداء في نوفمبر 2019؛ وكان للأطرش، المُنحدر من عائلة قائد الثورة السورية الكُبرى سلطان باشا الأطرش، مواقفَ عدة أثناء الحرب الأهلية السورية ساهمت في إبقاء شباب الطائفة الدرزية على الحياد دون اشتراكهم في الحرب.

[vi] الحرم الديني، هو أقسى حكم أو عقاب يمكن إصداره على أبناء المذهب، إذ إنه يشمل الحرم الاجتماعي بما يوجب المجتمع القطيعة الكاملة للذي يقع عليه الحرم، ويخضع من لا يلتزم أو من يخرق هذه القطيعة الى ذات العقوبة، مضافاً إليه منعه من دخول أماكن العبادة (المجلس) إذا كان رجل دين، وفي حال وفاته لا يُصلى على جنازته.

[vii] تلاه تفجير ثان في اليوم نفسه في ساحة المشفى الوطني، راح ضحيته نحو 40 شخصاً، عدد منهم من أعضاء الحركة.

[viii] نظام البيارق هو تقليد حربي يقوم على أن تكون لكل قرية أو عائلة كبيرة رايتها الخاصة (بيرق) تقاتل تحته ويُعين حامل لكل بيرق، وهذا التقليد اتبعه أهالي المحافظة سابقاً خلال حروبهم مع العثمانيين والفرنسيين.

المصدر: مركز الإمارات للسياسات