الدستور في الدولة الاتحادية

الدستور في الدولة الاتحادية

Jun 22 2023


د. سولاف كاكائي*
الدستور: عبارة عن مجموعة قواعد (مكتوبة أو عرفية) تحدد أسس تنظيم السلطات العامة: التشريعية، التنفيذية والقضائية في الدولة، والعلاقة فيما بينها، وصلاحياتها، وكيفية ممارسة وأنتقال السلطة السياسية، بالإضافة إلى الحقوق والحريات الأساسية للمواطنين في المجتمع.
عليه، يمكن للدستور أن يكون مدوناً وموجوداً في هيئة وثيقة منشورة تتضمن بنوداً تتعلق بنظام الحكم والحقوق والحريات العامة في الدولة، شأن غالبية دساتير دول العالم، أو يكون عرفياً، غير مدوناً كما هو الحال في دستور المملكة البريطانية.
غير أن الدستور في الدولة الاتحادية يختلف عنه في الدولة البسيطة أو الموحدة/المركزية، في أنه يتضمن جملة من الشروط، من بينها ضرورة أن يكون الدستور الاتحادي مدوناً، فالتدوين صفة أساسية، بمعنى يجب أن تكون نصوصها واضحة وصريحة يمكن الرجوع إليها بسهولة ويسر دونما تعقيد أو إعطاء تفسيرات مختلفة لها.
إذ يحدد الدستور الاتحادي اختصاصات وصلاحيات كل من السلطة المركزية وسلطات الولايات، ويتجلى دور الدستور في الدولة الاتحادية في عدة نقاط أساسية هي: شرط تدوين الدستور، لأنه سيكون له دور أساسي في توزيع الاختصاصات بين المركز والأقاليم، وشرط الجمود الدستوري بمعنى لا يمكن تعديله بنفس طريقة تعديل القوانين العادية.
وحتى في حال تحديد الصلاحيات في الدستور الاتحادي المدون الجامد ، لا بدّ أن يحدث نزاع بين السلطة المركزية وسلطات الأقاليم، وهنا يأتي دور المحكمة الاتحادية للفصل في تلك النزاعات.
أولاً: شرط تدوين الدستور الاتحادي
تقسم الدساتير من حيث تدوينها إلى: دساتير عرفية ودساتير مدونة:
1.الدستور العرفي: وهو الذي تكون قواعده نتيجة العادة والتكرار في الشؤون التي تتعلق بنظام الحكم والعلاقة بين السلطات العامة في الدولة، إذ يقوم على العادة والسوابق التاريخية التي اكتسبت مع الزمن قوة العرف الدستوري، ومن أمثلة الدساتير العرفية، الدستور البريطاني.
2. الدستور المدون: أو المكتوب، فهو الذي يصدر عن الجهة المختصة لصدورها على شكل نصوص تشريعية رسمية في وثيقة واحدة، أو عدة وثائق دستورية، وقد يكون دستوراً موجزاً كما في دستور الولايات المتحدة الأمريكية لعام 1789 المؤلفة من 7 مواد فقط، تتضمن تنظيم السلطات العامة دون الحقوق والحريات التي تمّ الاشارة إليها في قائمة الحقوق بموجب التعديل الأول لعام 1891، أو يكون الدستور طويلاً بتفاصيل عن جميع أوجه شؤون الدولة كما في الدستور الهندي لعام 1950 المؤلف من حوالي 400 مادة وملحق بالدستور يتضمن جداول مخصصة لشؤون المركز والولايات.
ثانياً: توزيع الاختصاصات
يعد موضوع توزيع الصلاحيات والإختصاصات بين السلطة المركزية المركزية وسلطات الأقاليم أو الولايات موضوعاً أساسياً في الدولة الاتحادية، وأهم ما يميّز الاتحاد الفدرالي عن النظم اللامركزية الإدارية في الدولة البسيطة، حيث لا ينص الدستور في الأخيرة على صلاحيات الأقاليم ، وإنما يكون التفويض بقوانين خاصة من قبل السلطة المركزية، على سبيل المثال (قانون الحكم الذاتي لمنطقة كوردستان العراق رقم 33 الصادر في 11 آذار من العام 1974).
وقد أختلفت الدول الاتحادية في طريقة توزيع الصلاحيات ، ويمكن تحديدها كما يلي:
الطريقة الأولى/ حصر اختصاصات الطرفين، بمعنى أن يحدد الدستور الأمور التي تعود للسلطة الاتحادية وتلك التي تعود لسلطات الولايات أو الأقاليم على سبيل الحصر.
وتنتقد هذه الطريقة لاستحالة توقع جميع المسائل التي ستمارسها السلطة الاتحادية وتلك التي ستمارسها السلطات المحلية، لأن مثل هذه المسائل تتعلق بالظروف الاقتصادية والسياسية والقانونية واالثقافية والاجتماعية للدولة الاتحادية.
الطريقة الثانية/ حصر اختصاصات السلطة الاتحادية على سبيل الحصر وما عداها، أي المتبقية تعود لسلطات الولايات أو الأقاليم، وهذه الطريقة متبعة في سويسرا (المادة 3 من الدستور السويسري المعدل لعام 2000)، وفي الاتحاد السوفيتي (المادة 15 من دستور الاتحاد السوفيتي لعام 1936).
الطريقة الثالثة/ حصر اختصاصات سلطات الولايات وما عداها يعود إلى السلطة الاتحادية.
ومن الدول التي أخذت به كندا في (المادة 92) من الدستور الكندي لشمال أمريكا- البريطانية لعام 1867 المعدل، وفنزويلا في دستورها لعام 1953.
الطريقة الرابعة/ تحديد صلاحيات السلطة الاتحادية على سبيل الحصر، ثمّ تحديد صلاحيات مشتركة/توافقية بين السلطة الاتحادية وسلطات الولايات، بمعنى تعود لكلا الطرفين، وما يتبقى مما لا تقع ضمن الاختصاصات الحصرية أو الاختصاصات المشتركة/ التوافقية، تدخل ضمن صلاحية سلطات الولايات كما في الفصل 7_10 من القانون الأساسي الألماني لعام 1990 المعدل، وكذلك الباب الرابع من الدستور العراقي الدائم لسنة 2005.
في الحقيقة، نلاحظ تمركز السلطة والقيادة في السلطة المركزية في العاصمة، إذ تتركز لديها السلطات العامة: التشريعية، التنفيذية والقضائية، بالإضافة إلى الصلاحيات والمهام الإستراتيجية الخاصة بالدولة الاتحادية، مثل قضايا الأمن والدفاع وقضايا الأمن الوطني والسياسة الخارجية مثل عقد المعاهدات والأحلاف والتمثيل الدبلوماسي السياسي.
أما السلطات الإقليمية فإنها تتولى إدارة الشؤون المحلية، التي لا تدخل ضمن الصلاحيات الاتحادية، والتي لم يمنعها الدستور من ممارستها صراحة، وتختلف من ولاية لأخرى، وتتضمن الشؤون المتعلقة بالتربية والمؤسسات الأكاديمية (الجامعات) والصحة والأمن المحلي (الشرطة المحلية).
ثالثاً: شرط الجمود الدستوري
تقسم الدساتير من حيث طريقة تعديلها إلى دساتير مرنة و دساتير جامدة:
1.الدستور المرن: وهو الدستور الذي يتم تعديل أحكامه بذات الطريقة التي تعدل بها القوانين الاعتيادية، مثال على ذلك الدستور الإيطالي الصادر في 4 آذار عام 1947 .
2.الدستور الجامد: وهو الدستور الذي لا يمكن أن تعدل أو تلغى بذات الإجراءات التي تعدل بها القوانين الاعتيادية، بل يشترط لتعديله إجراءات خاصة، كاشتراط أغلبية خاصة أو اجتماع المجلسين أو هيئة خاصة أو مؤتمر، مثال الدستور الفرنسي للعام 1875 والقانون الأساسي العراقي عام 1925.
والدستور عبارة عن قواعد تنظم ممارسة السلطة في الدولة، فهو أعلى قاعدة في الدولة، وعليه، فإنه يتمتع بصفة السمو أو العلوية على القوانين، وبهذه الصفة لا يمكن المساس بنصوص الدستور أو تغييره أو تعديله بنفس الطريقة التي يتم بها تغيير أو تعديل القوانين الاعتيادية ، عليه فإن الدستور يتمتع بالجمود، وهذا الجمود هو نتيجة لعلوية الدستور والذي تفرضه اعتبارات سياسية الغاية منها هو تمتع النصوص الدستورية ببعض الاستقرار، كي تكون بمأمن من مساس المشرع الاعتيادي سواء بالتغيير أو التعديل.
فالدستور، إذن، يجب أن يكون ثابتاً بحيث يضمن الاستقرار، ومرناً بحيث يستجيب مع المستجدات ويواكب التغييرات، غير أن تعديله يجب أن لا يكون سهلاً بحيث يؤدي إلى التضحية بالاستقرار في الدولة.
رابعاً: تعديل الدستور في الدولة الاتحادية
تأتي أهمية الدستور في الدولة الاتحادية من أنه يقيم نوعا من التوازن بين السلطة الاتحادية وسلطات الأقاليم، ويحدد دوره في ممارسة السلطة على صعيد الدولة الاتحادية، أضف لذلك أنه يكون لكل إقليم دستوره الخاص به يمارس شؤونه المحلية وصلاحياته الاقليمية.
لذلك تعطى لتعديل الدستور أهمية بالغة في الدولة الاتحادية، ذلك أن أي مساس بالدستور الاتحادي معناه المساس بذلك التوازن، أو قد يطال التعديل تلك الاختصاصات المحددة للأقاليم.
والدستور الاتحادي بحكم كونه دستور جامد، فإنه يتطلب لتعديله إجراءات خاصة يمكن تقسيمها إلى ثلاث مجموعات:
1.مساهمة برلمان الولاية مع البرلمان المركزي الاتحادي: حيث أن التعديل لا يتم إلاّ بعد موافقة البرلمان الاتحادي وموافقة برلمانات الولايات.
ففي الولايات المتحدة الأمريكية، يتطلب تعديل الدستور موافقة ثلاثة أرباع الولايات (المادة 5)، وفي فنزويلا موافقة ثلثي الدويلات، أو قد يكتفي الأغلبية المطلقة كما هو الحال في المكسيك، في هذه الحالة يحاط التعديل بضمانة خاصة وهي موافقة برلمانات الولايات.
2.موافقة الشعب بأغلبية مزدوجة، إذ يشترط موافقة أغلبية الشعب وأغلبية الولايات، كما هو الحال في سويسرا (المادة 192) وأستراليا.
3.موافقة البرلمان الاتحادي: إذ يكتفي بموافقتها بأغلبية خاصة، كما هو الحال في البرازيل والأرجنتين.
ويمكن أن يحصل تباين بين الدول الاتحادية التي تتبع نفس طريقة التعديل من الناحية النظرية أي وفق النصوص الدستورية:
فقد تمّ تعديل الدستور الأمريكي 27 مرة فقط خلال 200 عام، في حين قامت الهند بتعديله 94 مرة خلال 60 عاماً، كما أجرت فنزويلا 26 تعديلاً على دستورها.
وعلى الرغم من أستناد سويسرا و استراليا إلى الاستفتاء الشعبي لاقرار التعديل بأغلبية مزدوجة، أي: أغلبية سكان الدولة الاتحادية، وأغلبية الولايات، إلاّ انه من الناحية العملية، توافرت هذه الشروط في أكثر من من 110 تعديلاً دستورياً رسمياً في سويسرا منذ العام 1891، في حين أن استراليا شهدت 42 محاولة منذ 1901 ونجح 8 منها فقط.
وهذا دليل على مدى الاختلاف بين دولتين اتحاديتين رغم تبنيهما نفس الاجراءات في طريقة تعديل دستوريهما، فلا توجد، من الناحية العملية، دولتين اتحاديتين متشابهتين رغم تبنيهما نفس الأسس والمبادىء والبنود الدستورية، لان الاختلاف بينهما يكمن في الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والموقع الجغرافي للدولة إضافة إلى التركيبة الديموغرافية للسكان وتوزيعهم في أقاليم الدولة الاتحادية.
خامساً: دور المحكمة في الدولة الاتحادية
إن تحديد اختصاصات كلاً من السلطة المركزية وسلطات الأقاليم غير كافٍ، لأنه قد يحدث خلاف أو نزاع بين سلطات المركز والأقاليم، لذلك تظهر الحاجة إلى محكمة عليا تتولى الفصل في النزاعات الناشئة بهذا الصدد، كما هو الحال في المحكمة العليا في الولايات المتحدة الأمريكية، والمحكمة الدستورية في ألمانيا، والمحكمة الاتحادية العليا في العراق.
من هنا، تعتبر الرقابة على دستورية القوانين في الدولة الاتحادية ضرورياً باعتبارها الضمانة التي تكفل توزيع الاختصاص والتي تمنع الولايات من التجاوز على اختصاص الحكومة الاتحادية، أو العكس، إذ يقول الفقيه القانوني (ألكسي دي توكفيل): (مهما كانت نوعية الدقة في صياغة الدستور الفدرالي، لا بدّ من وجود تداخل أو تشابك في الصلاحيات، ولهذا يتبلور دور القاضي الدستوري تقنياً للفصل في هذه النزاعات التي تنشأ نتيجة التعارض في الصلاحيات والاختصاصات ما بين السلطة الاتحادية والولايات أو الولايات فيما بينها).
وحول أهمية المحكمة العليا في الدولة الاتحادية يقول البروفسور (أندريه هوريو): (الخلافات بين الولايات والاتحاد لا يمكن أن تحل عن طريق الدبلوماسية، لأنها تدخل في نطاق القانون الداخلي، وهي أيضاً لا يمكن أن تحل عن الطريق الإداري، لأن الولايات ليست تابعة للإتحاد عن طريق التسلسل الإداري، بل يجب أن تحل عن الطريق القضائي).
وهذا ما يحدث في العراق بعد 2003، في الاستناد إلى تفسير المحكمة العليا فيما يتعلق بالمسائل التي سكت عنها الدستور أو النزاعات التي تتعلق بالسلطة الاتحادية وسلطات الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم.

*دكتوراه في القانون الدستوري.
(المقال منشور في مجلة رؤى المستقبل، ص32-33، العدد 5، مايو 2023)