لماذا حدثت انتفاضة ديمقراطية من لندن إلى طهران مروراً بباريس؟

لماذا حدثت انتفاضة ديمقراطية من لندن إلى طهران مروراً بباريس؟

Jul 16 2024

آزاد احمد علي
لقد سبق أن بينا أنه في عالمنا المعاصر العديد من الديمقراطيات، وبالتالي من تجارب الحكم الديمقراطي المتباينة. حيث نشرنا كتاباً بهذا الخصوص تحت عنوان: (أي الديمقراطيات تناسب كوردستان)، صدر عن مركز رووداو للدراسات سنة 2018. رجحنا في متنه أنه لم يعد هنالك نظام ديمقراطي واحد موحد يتم تقييد أنظمة الحكم (الديمقراطية) به.

فالديمقراطية النظرية (الخام) تطورت عبر سياقات تاريخية واجتماعية طويلة الأمد، خلال زمن مديد تجاوز ألفي سنة، لدرجة أن ابتعدت النظم الديمقراطية المعاصرة عن تلك الديمقراطية النظرية، إلا من حيث الروح والجوهر في بعض الحالات.

خلافاً للعديد من الآراء التي اشتغلت في السنوات الأخيرة على ما سمي (بنهاية الديمقراطية) وحتى (نهاية السياسة)، إذ صدرت العديد من الدراسات والكتب لدعم هذه الفكرة. على النقيض من هذا الخطاب، نفترض أن الديمقراطية تجدد نفسها، وتصر في السياق العملي على أنها أفضل النظم من بين ما أنتجته أنظمة الحكم عبر التاريخ. لقد انتشرت الديمقراطية خارج المنظومة الأوروأميركية، وباتت تتصدر بعض تجاربها في الأطراف، كالتجربة الهندية، التي تعد أكبر منظومة ديمقراطية في العالم المعاصر، وتعبر عن الديمقراطية الاجتماعية خير تعبير.

ظهرت ملامح هذا التجديد للمسار الديمقراطي العالمي بقوة في عدة محطات انتخابية أولها الانتخابات البريطانية الأخيرة يوم الخميس 4 / 7 / 2024، والتي تحققت عبرها لحزب العمال نتائج باهرة بقيادة كير ستارمر، حيث فاز بأغلبية ساحقة بلغت 412 مقعداً في مجلس العموم الذي يضم 650 مقعداً، أي ما يعادل 64% من مجموع أصوات المقترعين. مقابل خسارة حزب المحافظين لمائتين وخمسين مقعداً (250)، وهي أرقام غير اعتيادية في الانتخابات الأوروبية. حتى باتت تشبه انتفاضة ديمقراطية قامت به جموع الناخبين البريطانيين من شرائح مختلفة. ولا غرابة في هذه النتائج المعاكسة تماماً للمسار الانتخابي والديمقراطي لبعض الدول الأوروبية، حيث يتقدم فيها تيار اليمين والشعبوية.

ومن زاوية أخرى يمكن الافتراض بأن هذه الهبة جاءت كرد على أزمة الديمقراطية الأميركية وبعض دول الأطراف الأوروبية من قبل الناخبين في بريطانيا، لأنه رد فعل انبثق من أقدم نظام ديمقراطي أوروبي معاصر، واستفاقة من قبل مجتمع سياسي يبدو أنه الأكثر تميزاً في وعيه الانتخابي.

إن الانتصار العمالي في بريطانيا، الذي تزامن مع فوز ائتلاف يساري واسع (الجبهة الشعبية الجديدة) متمحور حول حزب فرنسا الأبية بالمرتبة الأولى، وحصوله على 182 مقعداً في البرلمان الفرنسي، وتجاوز كل من تياري اليمين والوسط يوم الأحد 7 / 7 / 2024، يشكل هذان الحدثان محطة مفصلية في مسار الديمقراطيات الأوروبية، ويؤكدان من جديد على جملة من الحقائق، والتي تعد أبرزها: أن الديمقراطية الأوروبية قادرة على تجديد نفسها واكتساب روحها (اليسارية)، وقد تحقق وترسخ في تزامن حكم اليسار في ثلاث دول مركزية أوروبية (ألمانيا، بريطانيا، وفرنسا). وهذا يشجع على الاعتقاد في أن روح الديمقراطية وجوهرها أقرب إلى الاشتراكية منها إلى الرأسمالية، فالاشتراكية والديمقراطية مترابطتان ومتشابكتان بمحتواهما الاجتماعي.

لقد أنذرت الطلائع الديمقراطية - اليسارية الواعية في المجتمعات الأوروبية الرئيسية القوى والحركات اليمينة بأن لا تتجاوز على القيم الأوروبية الراسخة، وأثبتت ان المجتمع السياسي الأوروبي يفضل اليسار ويتمسك به في وجه اليمين المنغلق. ويمتلك اليسار الاجتماعي رصيداً سياسياً ودرجة عالية من الوعي، فضلاً عن تجربة طويلة في توطين وممارسة الديمقراطية، لدرجة أنه هنالك من يفترض ان هذه الانتخابات ستُعيد الثقة في السياسة والعمل السياسي ضمن المجتمعات الأوروبية.

من جهة أخرى إن الخلل في النظام الانتخابي الأميركي (الديمقراطي) الراهن يسند ما ذهبنا إليه في التأكيد على إشكالية العلاقة بين الرأسمالية والديمقراطية في عالمنا المعاصر. وتؤكد الانتفاضة الديمقراطية الأوروبية الأخيرة على أنها رد سياسي وأيديولوجي على استغلال اليمين لمعضلات المرحلة، وعجز التيارات اليسارية سابقاً في القيام بحل العديد من المشاكل المعاشية والبيئية المستفحلة.

وقد عبر عن جانب من ظاهرة الانتفاضة هذه رئيس الوزراء البريطاني الجديد كير ساترمر، عندما كتب على منصة (X) اكس: "قلنا أننا سنوقف الفوضى. وسنفعل.. قلنا إننا سنطوي الصفحة. وسنفعل.. إن عمل التغيير يبدأ اليوم".

في نفس المناخات، وفي نفس سياق الانعطافة الديمقراطية يعد فوز مرشح الرئاسة الايراني الإصلاحي مسعود بزشكيان مؤشراً اضافياً على قدرة النظم الانتخابية الديمقراطية في أن تطور نفسها، وتتجسد ظاهرة التجديد والالتفاتة الجماهيرية نحو الديمقراطية في قابلية مسيرة الإصلاح السياسي ضمن منظومة الحكم الإسلامي الإيراني من أن تستعين بصناديق الاقتراع، لتحقق نجاحاً غير مسبوق، حيث تجسدت في دعم غالبية المجتمعات والشعوب الإيرانية للرئيس الاصلاحي الجديد ابن مدينة مهاباد. وهذا ما يرجح حقيقة أن العملية الديمقراطية والإصلاحات السياسية في المجتمعات الإسلامية وجهان لعملة واحدة.

ما حدث في لندن وطهران وترسخ في باريس خلال أسبوع واحد تعد ظاهرة أقرب الى الانتفاضة قام بها الاصلاحيون الديمقراطيون في وجه الركود والفوضى التي عمت مرحلة ما بعد الليبرالية، كما هي عملية رفض لمفردات المرحلة وأساليبها السياسية التي استعرت في ظلها الصراعات العسكرية والسياسية.

إن الاستدارة الديمقراطية الراهنة تعبر عن قدرة ورغبة المجتمعات ضمن العالمين الإسلامي والغربي المسيحي على التجديد والتمسك بالإصلاحات واتخاذها سبيلاً لتحسين الحوكمة. وهو سعي نبيل لترجيح النضال في سبيل العدالة الاجتماعية وحقوق الانسان على غيرها من الأهداف والدعوات التي تستجر العنف والصراعات. في المحصلة مازالت الديمقراطية تشكل سلاح المجتمعات الأنجح والأكثر فعالية لمقاومة الاستبداد ولتحقيق العدالة الاجتماعية، وتأمين حق الشعوب في تقرير مصيرها السياسي.
(نقلاًعن روداو)