كتاب وثقة ومؤامرة

كتاب وثقة ومؤامرة

Nov 26 2018

برجاف|حسين شبكشي*
كان المذيع التلفزيوني الأميركي المخضرم ولتر كرونكايت مضرباً للأمثال في «الثقة» لدى المتلقي، وأصبح القول المتداول إن الخبر الذي لا يقرأه ولتر كرونكايت قد لا يكون صحيحاً.
نال ولتر كرونكايت ثقة الجماهير العريضة بمختلف توجهاتها عبر رزانته وموضوعيته وثبات كل مبادئه. اليوم وكما يبدو واضحاً فإن هناك أزمة ثقة حادة جداً، ليست فقط على صعيد الخطاب الإعلامي ووسائله المختلفة، ولكن أيضاً على صعيد الخطاب السياسي والاقتصادي والديني. فالخطاب الإعلامي حول العالم أصبح يقدم «حقيقة بديلة» و«أخباراً كاذبة» بحسب تفسير مستشارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب، والخطاب السياسي طغت عليه اللغة القمعية والعنصرية والإقصائية على حساب الحريات والحقوق، والخطاب الديني «يركض في مكانه» ويعتقد أنه طاله التجديد والإصلاح. مع كل هذا المناخ المتوتر يكون النتاج الطبيعي فيه الظهور الكبير والطاغي لنظريات المؤامرة.
أنهيت قراءة كتاب ممتع ومثير ومهم منذ فترة قريبة بعنوان «راكب الحصان الباهت... صعود المؤامرة وسقوط الثقة في أميركا» للكاتب مارك جاكوبسون، وتظهر فيه أهم نظريات المؤامرة، وكيفية ازدهارها في أجواء ومناخ انعدام الثقة. وليس هذا الكتاب الوحيد المهم الذي يتطرق إلى فكرة أهمية «الثقة»، فلقد تطرق إليها من قبل الكاتب الأميركي ذي الأصول اليابانية فرانسيس فوكوياما بمهارة واقتدار، وبين بالأدلة الموثقة أهمية هذا العامل الحيوي في بناء القيم الاجتماعية وبناء الرخاء. وإذا ما طبقنا هذه المفاهيم والمعايير والمقاييس التي تأتي معها في العالم العربي، سنجد أن معدلات الثقة فيما سبق ذكره متدنية للغاية، وأن عقول العامة «ملغمة» بقدر مهول بنظريات المؤامرة بشتى الأنواع والأشكال.
ظهرت هذه الأمثلة بقوة خلال الأزمات والأحداث الكبرى، مثل نكبة عام 1948، وتأميم قناة السويس، والانقلابات العسكرية المختلفة، وحرب 1967 وغزو الكويت، وثورة الخميني، واحتلال الحرم، وغزو العراق، وأحداث سبتمبر (أيلول) 2001، والحرب الأهلية في لبنان، ووصول الخميني للحكم في إيران والربيع العربي. هناك أنظمة تمكنت من تسويق فكرة المؤامرة وترويجها على شعوبها، ولكن ظهر لاحقاً أنه لولا الهبوط الحاد في الثقة الموجودة في أوساط الشعب لما كان الطرح مقنعاً ولا ممكناً. ولكن «الثقة» المتقلصة جعلت من التربة الصالحة لزراعة أفكار المؤامرة خصبة وجاهزة بشكل مدهش.
هناك عمق تحليلي لا يمكن الوصول إليه طالما استمر الطرح السطحي لتفسير الأحداث الكبرى، ولذلك يتم اللجوء إلى «غيبيات» المؤامرة وتفاصيلها «المثيرة» و«الخيالية» لتفسير ما يحصل، وأصبح هذا سهلاً جداً وممكناً للغاية بوجود شبكات التواصل الاجتماعي الفعالة والمؤثرة بشكل فوري ومدهش.
نظريات المؤامرة كانت ولا تزال وسيلة إلهاء وإشغال وتسخير وتمكين ليتم إيجاد موضوع جديد وتفسير بديل لحدث كبير. وفي النهاية تبقى القضية الأولى هي وجود الثقة من عدمه، لأن معيار الثقة هو الذي يحدد مدى قدرة الشائعات ونظريات المؤامرة على الانتشار الهائل. ومع كل حدث يزداد هذا الأمر تأكداً.

*اعلاميّ ورجل اعمال سعوديّ وعضو مجلس ادارة شركة شبكشي للتّنميّة والتّجارة وعضو مجلس ادارة مؤسّسة عُكاظ للصّحافة والنّشر
(الشرق الأوسط)