تحوّلات المقهى
برجاف|فواز حداد
من أين جاءت المقاهي؟ من أوقات الفراغ، أم من الكسل؟ ربما من طرقات السفر، فكان الخان مكاناً للاستراحة. قلدته المدن، فأصبح المقهى مكاناً لتبادل الأحاديث واحتساء القهوة والشاي، عامراً بالدخان. ما يدور فيه لا يقل عما يدور في الحياة، بل الحياة نفسها متناثرة على الطاولات.
استقطبت المقاهي الغليان السياسي، ونبضت بحيوية الواقع وفوضاه. ففي دمشق، ارتاد مقهى "الهافانا" القادة الأوائل لحزب البعث ومثقفوه الوطنيون، وشوهد فيه المفكر زكي الأرسوزي والشاعر شوقي بغدادي والروائي هاني الراهب، بينما احتل عبد السلام العجيلي والصافي النجفي ووزراء سابقون مقهى "البرازيل".
في ما بعد أصبح مقهى "الروضة" مأوى الأدباء والصحافيين. بينما مقهى "النوفرة" في دمشق القديمة يحمل عبق التراث بمقاعده وزبائنه الشعبيين، ونجح المثقفون بجعله مكانهم الأثير، وكان المكان المفضل للكثيرين منهم. بينما التزم مقهى متواضع في طلعة جوزة الحدباء، بالديريين حصراً، يجمعهم بدلاً من تشرذمهم، كأنه "الشرداق" بلا شاطئ، انتقل إلى قلب دمشق، يتبادلون سوالفهم باللهجة الديرية الصميمية. للأسف لم يعد له وجود.
جسد المقهى حركة الأفكار، دبّجت فيه الأحزاب بياناتها الثورية، وناقش طلاب التغيير إشكالات التحوّل نحو الاشتراكية، وشُكّلت حكومات، وانعقدت صفقات، وقيل انقلابات، وربما مؤامرات. أحياناً لم تزد النقاشات السياسية عن تناول الأقاويل والشائعات. وشكل ركناً لتجمعات ثقافية، وفّر نوعية من الحياة الثقافية، لا يخلو من الخفة المستحبة، أشبه بالترفيه عن الأدب، ضنّ بها عليهم "اتحاد الكتّاب" المتجهم، فالمناصب هناك تملي على العاملين فيه تصوّر أن الاتحاد هو صانع الأدب، فيمنعون ويسمحون، بينما الأدب يبتكر خارجه.
يمنح المقهى الأدباء حرية الثرثرة، ورواية الطرائف وارتجال الشعر، وتبادل أخبار مهازل الدكتاتورية. فالمقاهي أصلاً للتواصل الإنساني، والكاتب المتهم بالعزلة، يستطيع الكتابة وممارسة عزلته في الضجيج، مستأنساً بمن حوله.
جاء الوقت الذي أجهز فيه الانضباط السياسي على روحية المقهى وعبثه الجميل. فشملها النظام الشمولي، بسلطانه الموبوء بأزلامه من مخبرين ووشاة، وظهرت شلل أدبية سرعان ما تنعقد، وسرعان ما تنفصم، إن لم تتحلل، في مسيرة قد تطول أو تقصر، تنتابها العداوات والانشقاقات.
لا تتورّع عن النمائم ونصب المكائد. تحوّلت إلى اتحاد أدبي مصغر سيطر عليه مجددون زائفون امتهنوا تلفيق الحداثة، وأصبح منبراً وفّر لأدعياء الشعر ومحتكري الرواية السخرية من الأدباء الناشئين، فالمقهى لم يعد فسحة طيبة للاسترخاء والتدخين وشرب القهوة، بات مكاناً يتعيّش على اجترار التوافه والحسد والمؤامرات الصغيرة، والتنصت على الأنفاس.
هذا النظام البوليسي ومعه الشلل، ليسوا أكثر من شامات سوداء في تاريخ مقاهي دمشق العابر للثقافات والأحزاب، والسياسات بأنواعها الرجعية والتقدمية، اليسارية واليمينية. لم تفقده طابعه الإنساني، مازال المتقاعدون والكبار في السن يبثون الروح فيه. أمست ذكرياتهم من جماليات المقاهي العامرة بالنوادر وألعاب الورق ورمي النرد... ومهما كانت الرمية طائشة، فدائماً هناك ما يقال وما يستعاد.
(المصدر:العربي الجديد)
-
بمناسبة عيد المرأة العالمي:
Mar 08 2024 -
دروس دستورية في مقابلة الرئيس بارزاني مع"مونتي كارلو"..
Mar 03 2024 -
في حوار حصري مع مونت كارلو الدولية: الزعيم الكردي مسعود برزاني يقول إن النموذج الديموقراطي مهدد في العراق وصف قرارات المحكمة الاتحادية بالاجحاف ضد الاقليم وتحدث عن القلق حيال الانسحاب الامريكي من العراق
Feb 28 2024 -
بيدرسون: النظام السوري رفض عقد جولات اللجنة الدستورية في جنيف
Feb 28 2024 -
بناء الثقة .. كشرط لتقدم العملية السياسيّة..!
Jan 27 2024 -
لنعمل لأجل بناء الثقة!
Jan 14 2024 -
لنعمل لأجل بناء الثقة؟
Jan 04 2024 -
يدون تاريخ المنطقة، ويزيل الستار عن خفايا "الهندسة الديمغرافية "! كتاب تقسيم "كوردستان العثمانية" لدكتور آزاد أحمد علي
Dec 30 2023 -
"الحركة الكُردية في العلاقات الدولية" للراحل رشيد حمو
Dec 16 2023 -
شكوى في سويسرا تتّهم الرئيس الإيراني بارتكاب «جرائم ضد الإنسانية»
Dec 13 2023
-
دلبخوين دارا: من شاشة روداو العربية!
Jun 11 2020 -
تقزيم المسألة السورية في قالب (صياغة الدستور)
Aug 15 2018 -
جمهورية شرق الفرات
Oct 14 2018 -
أولويات التفاوض كُردياً: الحفاظ على نظام الإدارة الذاتية، وعفرين:
Aug 14 2018 -
الدنمارك: ستة وجوه من حَمَلَةِ شهادات الماجستير على خشبة التكريم الكُردية.
Oct 17 2018 -
ورحلت القامة: رحيل الرجل الشجاع
Aug 21 2018 -
(الإصابة بالتوحد) أسبابها وأعراضها وكيفية االمساعدة على تحسن حالة الطفل التوحدي
Sep 01 2018 -
حقن البلازما بين هوس النساء والحقيقة العلمية..
Feb 21 2019 -
اختطاف المحامي ياسر السليم من كفرنبل بعد دعوته التعايش مع الدورز والكُرد وأهل الفوعة
Sep 22 2018 -
المحلل الإقتصادي خورشيد عليكا لبرجاف: الضغط على البنك المركزي ليس حلاً..والأزمة تتفاقم!
Aug 14 2018