صرة الذهب

صرة الذهب

Aug 10 2019

هبة عز الدين
ذات حلم ،شرَدَتْ روحي لتصل مدينة «بنقردان» التونسية .
عندما حَطتْ على الشـاطئ، جَلسَتْ قليلاً تشـد شـعر الأشـجار لتغطسـه في المياه، فهذه الأشجار لم تغتسل منذ زمن بعيد رغم أنها تعيش بجوار الماء، بينما نداءات السوريين التي تطلب الماء وصلت حدود المزُن ولم تحصل على قطرة.
قالـت روحـي لنفسـها: لمَ لا يلـح الإنسـان بطلـب الأشـياء إلا بعـد أن يفقدهـا؟ أوَلـَمْ يخلـق اللـه للإنسـان عقـلاً يتدبـر بـه وفكـراً يتأمـل بـه؟ إذن لم لا يـدرك بنـو البـشر جماليـة مـا يملكـون؟ هـل يجحدونهـا قبـل أن يفقدوهـا؟ تبـاً لهـم، فهـم يسـتحقون القصـاص بالفعـل .
تأتي، من بعيد، وشوشاتٌ مخنوقة، تنجذب روحي إليها وتنساق خلفها لتعر المـاء وتصـل قـاع المحيـط. هنـاك رأت روحـي هيـاكل عظميـة تجلـس عـلى سـارية سـفينة غرقت منذ آلاف السـنين. أدركتْ، من لهجتهم، أنهم سـوريون، فمرت من بين هياكل عظامهم كي تسـتمع بوضوح إلى أحاديثهم، فارتطمت بقفص صدري لأحدهـم. صرخ، وشـتم ديـن الوجـع. همـس لـه هيـكل آخـر ملقـي بجانبـه: لا تسـب الديـن. سـتجُلد ويفُصـل لحمُـك عـن عظمـك .
قهقه الهيكل« 1» وقال: لم يبقَ لي لحم ليفصل عن عظمي.
عنـد أعـلى السـارية كان يجلـس شـخصٌ نصُفُـه لحـم ونصفـه عظـام. يبـدو أنـه حديـث الغَـرقَ .اقتربتْ منه روحي، فرأت على نصفه اللحمي آثار جَلد واضحة. سمعت أصحاب الهياكل العظمية يدعونـه للجلـوس معهـم، وأكـدوا لـه أنـه سـيعتاد عـلى أحاديثهـم المملـة بعـد حـين. كانـوا ينادونـه «مهندس عصام»، أما هم فقد نسوا أسماءهم وراحوا يتنابذون بالأرقام. اقترب منهم «المهندس عصـام» وسـألهم عـن الوقـت، فنظـروا إلى الهيـاكل النائمـة، وراحـوا يحصـون عدد العظام التي تمثل الأيـام، والمفاصـل التـي تمثـل الأشـهر. بـدت الدهشـة عـلى وجـه عصـام وقـال لهـم:
- مـا هـذه الطريقـة بالعـد؟ إنهـا جديـدة عـي. هـل هـؤلاء ميتـون أم نيـام؟ وإن كانـوا نيامـاً كيـف بإمكانكـم حفـظ الأيـام إذا اسـتيقظوا؟
أجابه الهيكل« 1»: هذه الطريقة اسمها التقويم العظمي، ونحن هنا كلنا ميتون، لكننا نتناوب بالنـوم، كـما كنـا نفعـل أيـام معتقـلات الأسـد، وعندمـا ننتهـي نحـن مـن نوبتنـا نرقـد مكانهـم، وبذلـك نحافـظ على التقويم.
جلـس المهنـدس عصـام معهـم وأحـر الهيـكُلُ« 2» مـن القعـر زجاجـة كـولا مملـوءة بمـاء مالـح ،وقدمهـا لـه، وراحـوا يتبادلـون الأحاديـث عـن وضـع القـاع وأوضـاع القيعـان الأخـرى، ويتسـاءلون متـى سـيتم نقلهـم إليهـا؟ وهـل المـاء في القيعـان الأخـرى أشـد ملوحـة أم عذوبـة؟
وبينـما هـما يتحادثـان إذ يـأتي مـن قـاع بعيـد ضيـف عظمـي يضـع عـلى رأسـه شـماغاً. تطايـرت عظـام المهنـدس عصـام مـن الفرحـة، فهـذا الهيـكل الضيـف مـن الرقـة، نعـم من محافظته، لقد عرفه مـن الشـماغ. أقبـل عليـه عصـام ليحضنـه فأبعـده الهيـكل الضيـف وقـال:
- هـداك اللـه يـا شـيخ. لا ينقصنـا وجـع عظـام بسـبب العنـاق، فـلا حبـوب «بروفـين» هنـا ولا مُسَـكّنات أخـرى. يكفـي أن تحـرك عظـام كتفيـك كإشـارة للعنـاق. هـذا هـو العنـاق العظمـي.
انفـرد المهنـدس عصـام بالهيـكل الضيـف، وسـأله عـن عشـيرته، وتفاصيـل غرقه، فأخره الضيف أنـه كان نائمـاً في بيتـه عندمـا فـاض نهـر الفـرات وغرقـت جميـع البيـوت المحاذيـة، وقيـل، فيـما بعد ،إن ذلك كان بسـبب بناء سـد الفرات .
كانـت الأحـداث التـي يرويهـا الضيـف تمـر بذاكـرة عصـام كشريـط فيلـم قديـم فقَـدَ معظـم صوره ،لكنـه تذكـر بيـت أمـه الأرملـة الطينـي والطاقـة التـي كانـت تطـل عـلى بيـت الجـيران. تلك الطاقة التي كان يمـرر مـن خلالهـا الشرائـط الملونـة والأقمشـة المزركشـة التـي اشـتراها للحبيبـة بنـت الجـيران مـن سـوق «المدْينـة» بحلـب، وتغلغلـت في أنفـه رائحـةُ اللحـم المسـلوق والخبـز المحمـص الـذي كانـت تحـرّه أمـه لوجبـة الثريـد. كـما تذكـر الصنـدوق ذا المرايـا الـذي اشـترته أمـه يوم زفافها، وكيف كان يخبـئ فيـه باكيـت «الحمـراء الطويلـة»، ويختلسـها ليدخـن السـجائر خلـف الـدار. عـلى ذلـك الحائـط خلـف الـدار رسـم، ذات مراهقـة، قلبـاً عاشـقاً ووضـع فيـه سـهماً، وكتـب الحرفـين الأولـين مـن اسـمه واسـم زميلتـه في المدرسـة. وعـلى القسـم السـفي مـن الحائـط قـرأ عبـارات مـن كتـاب التاريـخ والرياضيـات والفيزيـاء، فقـد كان يكتـب مـا يحفظـه عـلى ذلـك الحائـط. ضحـك في نفسـه وهـو يتذكـر عبـارة «الحيطـان دفاتـر المجانـين». وحـدث نفسـه قائـلاً: الحيطـان دفاتـر السـوريين.
تعـود بـه الذاكـرة أيضـاً إلى بـاص النقـل ذي العجـلات الهرمـة الـذي أقلـه ذات صبـاح إلى مدينـة حلـب قبـل شـهر مـن موعـد الامتحانـات مـع أمـه التـي لا أمـل لهـا في الحيـاة مـن دونـه، فهـو وحيدهـا ومنجيهـا. بعـد أسـبوع مـن وصولهـما المدينـة سرت أخبـار تفيـد بـأن كل البيـوت بمحـاذاة نهـر الفـرات قد غرقت مع ساكنيها وغرقت معها الحبيبة والشرائط الملونة وذكريات التدخين الرية والنقش عـلى الحائـط، ولم يبـق لهـما سـوى صرة الذهـب التـي كانـت تحملهـا معهـا أمـه حيثـما ذهبـت.
يتذكـر عصـام كيـف نـزل وأمـه إلى خـان الذهـب بسـوق «المدْينـة» وباعـت أمـه أسـاورها كلهـا لتتمكـن مـن شراء بيـت في مدينـة الرقـة، وعـاد الألم ذاتـه يعتـصر قلبـه عندمـا تذكـر دمـوع أمـه وهـي تفـك الـصرة القماشـية وتخـرج الأسـاور والكـردان لتبيعهـا، لقـد كان هـذا مهرهـا ذات يـوم ولطالمـا تزينـت بهـا أمـام صديقاتهـا في الأعـراس .
تـردد في مسـمعه صـوت بـكاء أمـه ونحيبهـا عـلى غـرق الصنـدوق ذي المرايـا الـذي خبـأت فيـه جلابيـة زوجهـا المتـوفى وعباءتـه، فلـم يبـق لهـا منـه سـواهما، وكانـت تحضنهـما كل مسـاء وتشـم رائحتهـما لتتذكـر أنهـا كانـت يومـاً في ظـل رجـل.
عندما عادا إلى الرقة اشتريا بيتاً في شارع «تل أبيض»، ذا غرف حجرية واسعة ونوافذ مرسومة بشـكل هنـدسي عـلى خـلاف طاقـة البيـت الطينـي. الكـف الزرقـاء التـي كانـت معلقـة عـلى البـاب أبهرتـه، وتمنـى لـو أنـه يعـوم بـين البيـوت الغارقـة ويجـد حبيبتـه ويعطيهـا هـذه الكـف كقـلادة.
عـلى الحائـط، في غرفـة الجلـوس، كان ثمـة رسـم لمريـم العـذراء فالبيـت كان يقطنـه مسـتأجر مسـيحي ماهـر بالرسـم. وقـد كان كل صبـاح ومسـاء يقبـل رسـم السـيدة ذات الشـعر الأشـقر الناعـم والعنق البيضاء خلسة عن أمه ويداعب خصل شعرها. هذه السيدة بقيت الأنثى الأولى والأخيرة في مخيلته، فلا يوجد جمال يضاهي جمالها بين كل النساء اللواتي رآهن، ربما لأنها هي الوحيدة بين نساء تلك المدينة التي كان يستطيع أن يجلس أمامها على الأرض، ويأكل بيديه، في حرتها ،بلا ملعقة، ويمسـك البطيخ ويأكله دون تقشـير.
في الطابـق الأرضي، تحـت البيـت كان «أبـو زينـة» يبيـع أشرطـة كاسـيت لسـعد البيـاتي ويـاس خـر، وربمـا لأنـه يعشـق صـوت سـعد البيـاتي كانـت أغانيـه تصـدح عاليـاً طيلـة الوقـت. أغـاني البيـاتي امتزجـت مـع صـورة السـيدة العـذراء وأصبحـت جـزءاً مـن روح المهنـدس عصـام لدرجـة أنـه
إذا سـمع في البـاص صدفـة صـوت البيـاتي هـم أن يـرب السـائق، فهـذا الصـوت لـذاك الجسـد فقـط، ولا يجـوز لأحـد أن يقـترب منهـما.
تذكر المهندس عصام أيضاً أنه كان جالساً، ذات مساء، على شرفة منزله الكائن في شارع تل أبيـض، ولمـح فتـاًةً ممشـوقة القـوام واسـعة العينـين طويلـة الشـعر تقـف عنـد مدخـل أحـد المحـلات لتشـتري قماشـاً. لفتـت نظـره الفتـاة فنـزل بسرعـة إلى الشـارع وسـار خلفهـا حتـى وصلـت بيتهـا .
بقـي يراقبهـا كل يـوم وهـي ذاهبـة مـن بيتهـا إلى لمدرسـة، فقـد كانـت هـي مدرسـة للغـة العربيـة.
بعد مدة وقع في غرامها، وطلب من والدته أن تخطبها له، فتمّ الأمر وتزوجا بعد شهر تقريباً.
الزوجـة الجميلـة أضفـت ألوانـاً رائعـة لحيـاة المهنـدس عصـام وكانـت تحـر معهـا كل يـوم باقـة زهـور مـن طلابهـا وتنتظرهـا حتـى تجـف ليقـوم عصـام بتثبيتهـا عـلى الجـدار حـول السـيدة. أصبـح الحائـط وكأنـه مـزار مقـدس لعشـاق الفـن والجـمال ولم يـتردد أحـد مـن الأصدقـاء الزائريـن أن يضـع بصمتـه بتوقيـع عـلى ذاك الحائـط.
تذكـر عصـام أيضـاً عندمـا حملـت زوجتـه وأنجبـت لـه مريـم التـي كانـت تحبـو قـرب جـدار مريـم الأولى وكأنمـا تطـوف حـول مـزار. وسـط كل تلـك الذكريـات السـاحرة يقفـز جنـي أسـود لذاكـرة عصـام أسـموه «أبـا لقـمان الداعـي» الـذي جلـده في السـاحة العامـة أمـام كل النـاس بسـبب ذاك الجـدار النـصراني في بيتـه. اضطـر بعدهـا عصـام لأن يجمـع كل تلـك الـورود عـلى الحائـط ويضعهـا في صنـدوق خشـبي ويدهـن الحائـط وعينـاه تفيضـان دمعـاً وقهـراً.
نعـم لقـد اغتصبـوا أحلامـه التـي علقهـا عـلى ذاك الحائـط، أمـا الداعـي أبـو لقـمان فـكان يراقـب عصـام ليتأكـد مـن تنفيـذ الحكـم بقـص رقـاب الذكريـات ودهـان الحائـط. نظـر إليـه عصـام باحتقـارٍ وقـال لـه:
- تم الأمر تفضل خارج منزلي.
أغضـب تـصرفُ عصـام أبـا لقـمان، وصـار يضغـط عـلى عصـام بـكل شـاردة وواردة كي يغـادر المدينـة، وآخـر مـا فعلـه هـو جلـد عصـام للمـرة الثانيـة لأنـه حليـق اللحيـة والشـارب.
لم يبـق أمـام عصـام حـٌّلٌّ سـوى الهجـرة غـير الشرعيـة عـن طريـق البحـر. تـرك والدتـه وزوجتـه وابنتـه مريم وسافر إلى تونس كي ينتقل بعدها إلى ليبيا ومنها إلى إيطاليا. وفي عرض البحر غرق المركب ليجد نفسه بهذا القاع العظمي.
كانـت روحـي في هـذه الأثنـاء تفتـش في جيـب قميصـه الأبيـض، فلـم تجـد سـوى مفتـاح بيتـه .
مـد يـده إلى جيبـه وأخـرج المفتـاح ورمـاه في البحـر.
وقال للضيف العظمي: لم أعد بحاجة لهذا المفتاح، فالآن أدركت أن البيت ليـس جدرانـاً وبابـاً ومفتاحـاً، ولـو كان كذلـك لمـا بقـي الحائـط الطينـي وحائـط مريـم صرحـين سرمديـين في روحـي... البيـت ذاكـرة وحيـاة بعد ممات...
حملت روحي المفتاح وأحرته معها وألقته على طاولتي وهمست لي:
لا تقلقي إن أضعت المفتاح. لا قيمة للمفاتيح في عالم الأرواح.