أردوغان وسياسة الهروب إلى الأمام!

أردوغان وسياسة الهروب إلى الأمام!

May 03 2019

أكرم البني*
هي أشبه بعادة متوارثة أن يلجأ زعيم مستبد إلى خيار الهروب نحو الأمام لتعويض شرعية فقدها أو لتغطية أزماته والالتفاف عليها، مغلّباً مصلحته الخاصة وامتيازات السلطة على مصلحة الوطن، من دون أن يعير انتباهاً لنتائج ذلك في مفاقمة الأزمة ودفع الشعب الواحد نحو استقطابات حادة وشغله بصراعات جانبية غير مبررة سياسياً وقانونياً وأخلاقياً.
في المثال التركي، يبدو أن هذا البلد بات يعاني، أسوةً بغيره من البلدان، أزمة عميقة جراء احتقان مجموعة من المشكلات التي لم تجد طريقها إلى الحل، وطالت حقول السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، لكن ما يعمّق هذه الأزمة أكثر ويوسّع تداعياتها، هو استهتار الرئيس التركي رجب إردوغان، بها وإصراره على اتباع كل أشكال التهرب من الاعتراف بأسبابها الحقيقية، حتى لو تهدد مستقبل البلاد وأُسس وحدتها ونهضتها، وأُطيح بالحياة الديمقراطية كطريق مجرّبة لتمكين مختلف قوى المجتمع من المشاركة في البناء والتنمية والتقدم، والتي من دونها ما كان إردوغان ليصل إلى ما وصل إليه اليوم.
فماذا يمكن أن يُقال؟! عندما يرفض إردوغان الإصغاء لرفاق دربه القدامى الذين شاركوه بناء الحزب ومكّنوه من قيادة البلاد، ويزدري ملاحظاتهم ونصائحهم لتفادي الأخطاء وتصحيح ما يمكن تصحيحه قبل فوات الأوان، والأسوأ عندما يندفع لمهاجمتهم على أنهم أشخاص انتهازيون يسيئون لمسيرة الحزب وتجب محاسبتهم وتحميلهم تبعات أفعالهم، وفي مقدمهم الرئيس السابق عبد الله غُل، ورئيس الوزراء الأسبق أحمد داود أوغلو، لا لسبب جلل، بل لأن الأول دعاه لاحترام إرادة الناخبين ومبدأ التشارك في الحكم، ووجّه الثاني رسالة نقدية صريحة إليه وإلى الحكومة ينبههما فيها إلى ما يحدث من مثالب ويدعوهما لتصويب الأداء في إدارة مختلف الملفات المهمة في تركيا، كملف التردي الاقتصادي والفساد، وملف الحريات والأمن، وملف العلاقات الخارجية، ثم طرائق الحزب الخاطئة في صياغة تحالفاته، والأضرار الناجمة عن تداخل الصلاحيات بين أمانة الحزب ورئاسة الجمهورية ورئيس الحكومة!
والحال، بدل أن يحترم إردوغان إرادة الناخب ويضع نصب عينيه الانتصار لقواعد الحياة الديمقراطية وتعويم دوره كرئيس للجميع، يسارع إلى الطعن في نتائج الانتخابات البلدية، محاولاً تغييرها في مدينة إسطنبول، لإعادة تمكين حزبه فيها ومنع المعارضة من إدارتها، مستقوياً بثلة من الفاسدين وبتصريحات حليفه رئيس الحركة القومية المتشددة، عن ضرورة إلغاء الانتخابات نهائياً في ظل الأزمة العميقة التي تمر بها البلاد! ولا يخرج من هذا السياق إدانته الخجولة لتهجم أنصاره على زعيم حزب الشعب الجمهوري المعارض كمال أوغلو، ومحاولتهم إيذاءه جسدياً! بل يؤكده استثمار وتوظيف المحاولة الانقلابية الفاشلة، لتشديد القبضة القمعية وخلط الأوراق للتنكيل ليس فقط بالانقلابيين وإنما بمختلف خصومه، بدليل الحملات التي قادها ولا يزال يقودها إردوغان بنفسه لكمّ كل الأفواه، والتي تطال، بصورة لا تطاق، أي موقف يعترض على سياساته وأي رأي ينتقده، لتتواتر اعتقالات إعلاميين ومثقفين وإغلاق صحف وحجب لمواقع التواصل الاجتماعي، وأيضاً المعارك المتعددة الأشكال التي تخاض لتأليب الرأي العام ضد الأكراد بصفتهم الخطر الأكبر على تركيا، ولتسويغ قمع ومحاصرة نواب حزب الشعوب الديمقراطية على أنه نصير للإرهاب!
وماذا يمكن أن يقال؟! حين يتناسى إردوغان حقيقة أن حرصه على محاربة الفساد وصدقية تنفيذ الخطط الإنتاجية والخدمية وما رافقها من انتعاش اقتصادي، كانا من أهم الحوافز التي مكّنته شعبياً وسهّلت وصوله إلى سدة الحكم، لنراه، ورغم تفاقم المشكلات الاقتصادية وتراجع قيمة الليرة والقدرة الشرائية، يتوغل أكثر في تشويه المناخ الاستثماري وحماية ظواهر الفساد والاستئثار المالي، التي باتت تلصق بأهم المقربين منه وبعض أفراد أسرته! وأيضاً عندما يطيح إردوغان قاصداً بالنموذج الذي حاول الترويج له عن التعايش بين الدين والديمقراطية والعلمانية، وبالدور الذي يُفترض أن يلعبه حزبه في إشاعة الاعتدال الإسلامي وتعرية جماعات التطرف والتعصب، حيث يتقصد اليوم استحضار مختلف الصغائر التي تؤجج التعارض بين الموروث الديني والأسس العلمانية للدولة، في محاولة لتنميط حياة المجتمع إسلامياً وفرض الهوية الدينية على حساب الحريات الفردية والتنوع والتعددية، موظفاً التاريخ الإمبراطوري العثماني لتعبئة قوى متخلفة وغوغائية يعتقد أنها قادرة على نجدته لردع أطراف تركية لا ترضى بدولة دينية، ومكرساً جهداً خاصاً لدعم جماعات الإسلام السياسي التي تصدرت مشهد الربيع العربي كي تعزز نفوذها وتُحكم سيطرتها على مجتمعاتها، والأنكى ما رشح من دعمه الخفي لتنظيمي «داعش» و«القاعدة»، إنْ بتغطية مصادر أسلحتهما وتمويلهما، وإنْ بتسهيل مرور آلاف الجهاديين للالتحاق بهما.
وتكتمل محاولات الهروب إلى الأمام بجنوح إردوغان إلى التخلي عن سياسة «صفر مشاكل» التي اتبعها خلال الفترة الأولى من حكمه، نحو تصعيد التدخلات التركية في شؤون المنطقة والعالم، إنْ عسكرياً في سوريا والعراق وليبيا، وإنْ سياسياً عبر التفنن في توجيه الشتائم والاتهامات إلى بعض الحكومات الغربية، وترهيب مواطنيها بأنهم لن يكونوا آمنين في شوارعهم، ثم تطاوله على الشعب الأسترالي وتهديده بالويل والثبور، تعليقاً على العملية الإرهابية ضد المسلمين في نيوزيلندا، وأخيراً هجومه الطفولي على نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون، لأنه خصص يوماً لإحياء ذكرى مجازر السلطنة العثمانية ضد الشعب الأرمني، في حين لا يتردد أو يخجل من الخنوع لآخرين لتجنب أي ضرر قد يلحق بخططه وطموحاته، كهرولته المذلّة لاسترضاء تل أبيب، ورسائل الاستجداء والاعتذار لموسكو بعد إسقاط إحدى طائراتها.
هل تصح قراءة هروب إردوغان نحو الأمام وإصراره على إنكار الأسباب الحقيقية لأزمته وسبل معالجتها، كمحصلة للانحدار السياسي الذي يشهده الرئيس التركي وحزب «العدالة والتنمية» جراء تشوهات استئثارهما بالحكم لعقد ونصف من الزمن؟ أم هي رد غير عقلاني على أزمة بنيوية عميقة بدأت تطال جماعات الإسلام السياسي عموماً وإردوغان الذي يدّعي زعامتها، وتجلّت بانكشاف روحها الاستبدادية وسقف دورها النهضوي، بعجزها، بعد تجاربها في السلطة، عن إحداث نقلة نوعية لإدارة المجتمعات وتخفيف مشكلاتها؟ أم أن الأمر يتعلق بتنامي نزعة الغطرسة والغرور والأنانية لدى إردوغان، يحدوها استغلال ثقةٍ منحها الناس له في ظروف خاصة، ثم تمكنه من السلطة بعد تغيير الدستور، ومن النيل من أهم معارضيه، ربطاً بموجة الشعبوية والعنصرية المتصاعدة في العالم؟
*كاتب سوري
المصدر :الشرق الأوسط