ما أقصر هذه المسافة...

ما أقصر هذه المسافة...

Aug 07 2018

ابراهيم عباس.

أتمنى الآن أن أكون في مدينتي ، أجوب شوارعها ، أزور أصدقائي ، ألتقي بالأشخاص الذين كنت أعرفهم ، نتحدث عن الحب و المرأة و السياسة و الأدب و الرياضة .
أتمنى اﻵن أن أكون في قريتي ، برفقة صديقي ، نزور القرى القريبة من قريتنا بسيارته ، و أطلب منه الاستماع إلى أغنية (Lo Dilo ) لباقي خضر ، و كنت أطلب منه الاستماع إليها كلما صعدنا السيارة ، كان يسألني كم تحب هذه الأغنية ، فأرد عليه بإجابة مختصرة : من لا يحبها حمار ، ففي هذه اﻷغنية الشهيرة بين الكوبانيين كان باقي خضر يغني عن القلب ، يصفه بالعظمة ، بالتجدد ، بالشباب ، بروح التحدي ، و يغني عن المجد الضائع لأناس ذاع صيتهم في مرحلة ما ، ثم ضاع .
أتمنى اﻵن أن أكون في قريتي ، في بيتنا الريفي الواقع في حرم البحيرة ، البحيرة التي كانت تتلاعب بأعصابنا حين تزداد مياهها ، فيرتفع معها ضغطنا خشية أن تغزو تلك المياه بيوتنا .
في الصيف تحتل حقول القطن و السمسم و الذرة مساحة كبيرة في تلك المنطقة السهلية ، بحكم سهولة الحصول على مياه اﻵبار ، في الصيف كنت أنام على سطح منزلنا ، أستيقظ صباحا" على أصوات الديوك و هي تتباهى بصوتها أمام الدجاجات ، و على أشعة الشمس التي لا ترحم ، و أصوات اﻷطفال و هم يقودون اﻷغنام و اﻷبقار إلى ضفاف البحيرة كي ترعى ، أستيقظ صباحا" ، أعد القهوة لنفسي ، و مازلت إلى يومنا هذا أقوم بإعداد القهوة لنفسي ، من يعشق القهوة يجد متعة" في إعدادها .
أقرأ رسائل الحب ، المرسلة و المستقبلة ، حرفا" حرفا" ، كلمة" كلمة" ، جملة" جملة" دون أن أترك لتلك الحروف و الكلمات و الجمل سانحة" كي تفلت من عيني ، أضحك ، و أنا أقرأ نصيحة" تريد حبيبتي أن ألتزم بها ، لا تذهب إلى بيت ............ أخاف أن يضعوا مادة" تؤذيك في الطعام أو الشراب الذي سيقدمونه لك .
أتمنى أن أكون ، و قبل أن تلملم الشمس أشعتها ، أن أمشي على ضفاف البحيرة ، و أنا أحمل معي تلك الرسائل ، أستمتع بقراءتها ، كنت أمارس هذه العادة كثيرا" ، كنت مدمنا" لها ، فليس هناك إدمان يضاهي جمالها ، البحيرة ، الغروب ، و رسائل الحب ، و كان ذلك يذكرني برسالة أرسلها شاب من قريتنا يدرس في أوكرايينا إلى صديق له حيث كتب فيها : أوديسا تعيش ثالوثها المقدس ؛ المرأة ، البحر ، الخمرة ، و أنا كنت أعيش ثالوثي المقدس الخاص بي .
أقرأ الرسائل ، ثم أنظر إلى الشرق ، هناك أربعة كم تفصلني عن تلك التي أحبها ، أردد بخيبة :
ما أقصر هذه المسافة إذا ما نظرنا إليها من خلال الأمتار !
و ما أطولها و أصعبها و أقساها إذا ما نظرنا إليها من زوايا أخرى ، سدنة حدائق الهوتو ليس من طباعهم السماح لفراشة أن تحط على زهرة من تلك الحدائق .
عودة على البدء :
يقال و على ذمة من عادوا من مدينتي بعد انتهاء زياراتهم إليها إن المدينة لم تعد كما كانت ، فقدت بريقها السابق ، تغيرت الكثير من الوجوه ، جاء إليها أناس من مناطق أخرى ( لست ضد من اقتلعتهم الحرب من مدنهم و قراهم و بيوتهم ، ثم نزحوا إلى كوباني ،ليحظوا بفرصة البقاء أحياء" على قيد الحياة في هذا العالم الساقط ثقافيا" فكريا" سياسيا" اجتماعيا" عسكريا" )
الأشخاص و الأصدقاء الذين كانوا على مقربة منك و معرفة بأحلامك و آلامك قد غادورا المدينة ، استقروا في دول أخرى ، معالم المدينة تغيرت ، الشوارع تبدلت ، البيوت استطالت ، المدينة صارت أعرض ، حين تزورها تكاد لا تصدق أن هذه المدينة قد خاضت حربا" شرسة" ضد عدو تم صنعه في الخارج و بمباركة من دول الجوار و بتشجيع من الداخل ، تتساءل مستغربا" بينك و بين نفسك : هل من المعقول أن هذه المدينة قد تم تدمير حوالي خمسة و ستين بالمئة من بيوتها التي صارت أنقاضا" ، كل بيت يروي حكاية من الكد و العمل ، هناك بيوت صارت نسيا" منسيا" ، بيوت تحطمت أجزاء منها ، و بيوت أخرى كان نصيب حائط منها أن أصابته قذيفة