دروس واقعية مؤلمة ..  من أجل الخروج من مستنقع الأهوال إلى الأرض العامرة

دروس واقعية مؤلمة .. من أجل الخروج من مستنقع الأهوال إلى الأرض العامرة

Dec 13 2018

الدكتور عارف دليلة
البداية من المحامي العريق ادوار حشوة : صورة عن العدد السابع من جريدة " سورية بدها حرية " التي كانت تصدرها التنسيقيات في حمص ، وتاريخه 11/12/2011، المنشورة ادناه .
والنسخة المصورة هي ماتبقى بين مخلفات تعفيش داعش الرسمية لمكتبه ، وقد حرضني على كتابة بعض الذكريات الاليمة ، شخصيا ووطنيا ، ماورد في صورة العدد المنشورة ، التي تؤكد على الانطلاقة السلمية اللاطائفية عام 2011 للاحتجاجات الشعبية العريضة المطالبة فقط بالاصلاحات الجذرية المستحقة جدا ، وورود خبر في الجريدة عن قرب مشاركتي في المجلس الوطني، الذي كان حديث التشكيل آنذاك، مع ميشيل كيلو وهيثم مناع ، بدعوى ان مشاركتنا تجعل المجلس " اكثر تمثيلا للشعب السوري" ، الامر ( مشاركتنا في المجلس ) الذي لم يكن محل بحث او اهتمام من قبلنا على الاطلاق بسبب الطريقة التي تشكل بها المجلس والاطراف التي شكلته واسلوب عمله ، وقد قضيت في باريس حينها مدة ثلاثة اشهر قادما من استوكهولم حيث شاركت مع حوالي مائة سوري في مؤتمر دعى اليه الحزب الاشتراكي السويدي في 7/10/2011 لمدة اربعة ايام شارك فيه معظم معارضي الداخل السوري آنذاك اضافة الى بعض المعارضين المقيمين في الخارج ، وحضر للمشاركة ، قادما مباشرة من المطار ، في اليوم الثالث للمؤتمر برهان غليون ،في سيارة سويدية رسمية مع حارس رسمي، بصفته رئيسا للمجلس الوطني ، وشارك بمداخلة ، مثل جميع المشاركين، ثم غادر لالتزامات اخرى ، وبعد خروجه وعندما مد رجله لدخول السيارة والحارس يمسك له الباب المفتوح التقطت له صورة ، لتظهر خلال دقائق على شاشة الجزيرة مزيلة بكلمات تقول ان الدكتور برهان غليون القى كلمة على اعضاء المجلس الوطني في المؤتمر الذي يعقدونه الان في ستوكهولم ، ولما كانت الحقيقة خلاف ذلك وان المؤتمر لم يكن لاعضاء المجلس الوطني ، كما وصفتهم "الجزيرة" ، فقد ارسلت المسؤولة الاعلامية في المؤتمر عن الحزب الاشتراكي السويدي تصحيحا للخبر الى "الجزيرة"، لكن "الجزيرة " اصرت على ابقاء الخبر دون تصحيح !
وبعد انتهاء المؤتمر كرمتني مشكورة جمعية حقوق الانسان السويدية بدعوتي الى لقاء في جامعة روتنبرغ 600 كم جنوب ستوكهولم حيث اجتمعت في لقاء مؤثر مع اعضاء الجمعية المحترمين الذين كانوا ، ولم اكن اعلم بذلك سابقا ، قد نظموا حملة عالمية واسعة لاطلاق سراحي بعد اعتقالي في 9/9/2011 ، هذا الاعتقال الذي جرى بعد ان كنت قد صرفت من الخدمة قبل ثلاث سنوات ونصف من عملي كاستاذ للاقتصاد في جامعة دمشق في 28/3/1998 على اثر تلبية دعوة من مايسمى "اتحاد الكتاب العرب" لالقاء محاضرة في مكتبه في المزة بدمشق ، وكان عنوانها "التنمية وحقوق المواطن الاقتصادية في الدستور السوري " بينت فيها ان الدستور مطبق عكسا بالكامل ، اما اعتقالي فقد جرى على اثر ربيع دمشق ، وقد قسمونا الى مجموعتين اربعة اربعة لكي نتحدث تحت التنصت والتسجيل السري بما نعرف من وقائع الفساد والتخريب الهائلة، وليحكم علي بالسجن الانفرادي عشر سنوات ( بينما حكم على الشركاء الاخرين بخمس وبثلاث سنوات وبسنتين ) ،قضيت منها سبعا عجافا ، لأخرج من السجن على اثر امراض خطيرة ومطالبات خارجية كثيرة ،هذا وهم يتفرجون على تدهوري صحيا نحو الموت عند نقلي مرات كثيرة في حالات اسعاف الى مستشفيات دمشق ، وهم ينتظرون انفاذ كلمة وعدوني بها في اليوم الاول لاعتقالي باني "لن اخرج الا جثة هامدة يرمونها في المقبرة " ، وانهم اعتقلوني"ليربونني ويربوا الناس بي"!
ولكن ، ليربونا على ماذا ؟
بالطبع ، على اغلاق افواهنا عن الاعتراض على سرقتهم الوطن من بابه الى محرابه ! وكان اخيرا اعتراضي على سرقة امتياز الخليوي ، بالاف مليارات الليرات السورية ، بمخالفة فاضحة للقانون ، القشة التي قصمت ظهر البعير ، والتي كانت كلها تحت عنوان ( الاصلاح الاقتصادي والسياسي ومعاداة الفساد والتخريب لاسس الحياة العامة والخاصة في سورية) ، بما فيها المقالات العديدة الانتقادية التي كنت قد نشرتها اثناء ربيع دمشق عامي 2000_ 2001 في جريدة "الثورة" ، عندما كلف النقابي السابق ، الشريف النظيف الراحل ، الصديق محمود سلامة برئاسة تحريرها و باستكتاب المعارضين "ليقولوا رايهم بحرية كاملة !"، كما قيل له ، وهي الفرصة التي ماكنت لأضيعها ، ولكنها ادت ، بعد نشري لتلك المقالات ، الى اعتقالي، بعد وقف منتديات ربيع دمشق صيف عام 2001 ، ثم ادت لاقالة محمود سلامة ، بعد دخولي السجن باشهر قليلة ،ثم لوفاته ، مأسوفا عليه ، بجلطة قلبية !
وكنت قد القيت محاضرات عديدة ،قبيل نشاط منتديات ربيع دمشق ، بدعوات موجهة من قبل مدراء المراكز الثقافية : في صحنايا قرب دمشق ، وفي اللاذقية وحمص والسلمية والسويداء ، وكان هناك مواعيد في حلب ودير الزور والرقة الخ ، لكنها الغيت بعد دراسة "الاجهزة الوصائية والجهات العليا" لتسجيلات المحاضرات والنقاشات التي جرت فيها والتي كانت تستمر ، على درجة عالية من الحيوية والجدية والحوارية الديمقراطية ، لأكثر من ثلات ساعات ونصف ، مع مشاركة ممثلي السلطة المحافظين ( جمع محافظ ) والحزبيين السلطويين ، ومداخلات عشرات المشاركين الاحرار ، وبعد تأكدهم من ان وزن السلطة مع كل احزاب جبهتها " الوطنية التقدمية " في الواقع السوري لايرقى الى خمسة _ عشرة في المائة، في احسن الاحوال ، والباقي للمعارضة الوطنية بمختلف تلاوينها ، المحرومة من كل اشكال العمل السياسي والثقافي العلني القانوني الذي يشرعه حتى الدستور والقوانين النافذة .
وبمناسبة محاضراتي الاصلاحية حدث ما يجدر التوقف عنده مليا . لدلالاته الهامة حول انعدام الصدق والجدية لدى من كانوا يديرون الحملة الترويجية للنظام الجديد " حامل لواء مكافحة الفساد !!!" ، الادعاء الذي كنت دائما على قناعة عميقة بكذبه الصراح !
ففي مطلع شهر ايلول عام 2000 ، ومع انطلاق الحملات الترويجية الواسعة حول وعود النظام القائم بسورية الجديدة " العصرية المختلفة نوعيا عن سورية العقود الثلاثة السابقة "، ب "سورية الحرية والديمقراطية المزدهرة ، دولة لجميع ابنائها"، اتصل بي مدير المركز الثقافي في صحنايا بريف دمشق ، وبعد مقدمة طويلة من عبارات التقدير ، دعاني لالقاء محاضرة حول "الفساد في سورية وكيف يمكن مكافحته" ، ورغم مفاجأتي بالموضوع فلم اكن لأمتنع عن الخوض فيه وانا امارس ذلك بصورة مستمرة في ندوة الثلاثاء المعروفة بدمشق ، ولكن مكان المحاضرة هو المركز الثقافي في صحنايا خارج دمشق ، بعيدا عن كتلة الموظفين والمسيسين ، والموعد المحدد هو 28 ايلول يوم تكون الجامعات في عطلة صيفية ولم تعد الى النشاط بعد ، املا من الداعين بتجريب نقاش هكذا موضوع وسط قلة من الحضور !
لكن القاعة في موعد المحاضرة كانت تعج بالمهتمين . وبعد تقديمي بتعريف طويل ب "كفاءتي و..الخ..." من قبل مدير المركز ، تحدثت عن التطور غير السليم للاقتصاد والادارة والمجتمع في سورية بسبب الانتشار الكبير للفساد الذي توسعت في التعرض له ولآثاره الخطيرة ، واجبت على اسئلة الحضور ، هذه الانتقادات وامثالها في المحاضرات الاخرى اصبحت هي مصدر جميع الاتهامات الموجهة لي اثناء التحقيق في اليوم الاول لاعتقالي ، كتأكيد على كيف سيعامل الراي الحر في سورية الجديدة . وبعد ايام من القاء المحاضرة تلقيت اتصالا من مدير المركز الثقافي في صحنايا يشكو لي اعفاءه من منصبه ، معتقدا بان شخصا يجرؤ ان يقول هذا الكلام عن الفساد واربابه لابدان يكون واصلا ومدعوما وطويل الباع وقادرا على الدفاع عنه عند "اعلى المستويات " ، فاجبته اني لا استطيع ان افيده بشيء بل قد يزيد تدخلي وضعه سوءا !
والانكى من ذلك قوله ان دعوته لي وتحديد عنوان المحاضرة كانا بقرار من الفرقة الحزبية للمركز مسجل في محضر اجتماع الفرقة ، وهو ، كعضو في الفرقة ملزم بتنفيذه . ومع ذلك فهو الذي دفع ثمنه !
واضافة لهذه المحاضرات وقبلها والى جانبها ، كنا نقيم ندوات الثلاثاء الاقتصادية في المراكز الثقافية ، على مدى ربع قرن ، وكلها كانت تحلل تطور الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية الى جانب فضح الفساد على جميع المستويات في النظام واداراته ومسؤوليه ، وفضح ملاحقة النظام لاعداء الفساد وصرفهم من الخدمة واستئصالهم من كل مكان ، وقرارات وسياسات وزارات الاقتصاد والمالية والزراعة وغيرها ، التجارية والضريبية والنقدية، المدمرة للاقتصاد ، بقطاعيه العام ، والخاص ، باستثناء صيادي الفرص الذين كانت القرارات والسياسات تفصل على مقاساتهم ، مثل قرار السماح باستيراد الاليات الزراعية المستعملة الذي صدر بتوقيع وزير الاقتصاد بعد وصول بواخر محملة بالنفايات التكنولوجية الاوربية الصدئة المكومة هناك في مقابر الالات من الجرارات والحصادات والسيارات الخ لتباع باغلى من اسعار موديلاتها الجديدة لو كانت تستورد بدون انقطاع للسوريين المتلهفين للحصول عليها بعد تجويع الاقتصاد والمواطنين للالات والضروريات المعيشية سنوات طويلة ، ولم يستطع وزير الاقتصاد ، ردا على انتقاداتي ، الا التفاخر بانه خلال عامين دخل الى سورية 40 الف جرار مستعمل ، طبعا ليربح من استوردوهم المليارات ، تماما مايعادل خسارة القطاع الزراعي والاقتصاد الوطني والشعب السوري . وكان من الموضوعات المثارة ايضا التحريض على الهدر في الانفاق ، مثل القرارات السياسية التي تتوجه للمدراء والمحافظين والشركات العامة والقطاع الخاص بالتوبيخ على التقصير في الانفاق على الانشطة الاحتفالية بما يليق بالمناسبات لكي يتجرأوا اكثر على الانفاق التبذيري غير الخائف من الرقابة . وجرى التعرض ايضا في الندوات لترف وفساد قيادات الاتحادات المحسوبة على العمال والفلاحين والنساء وغيرهم وممارساتهم في تجريف نتاجات العاملين في الصناعة والزراعة والاموال العامة ، والبحث في اسباب التصحر وتملح التربة الزراعية وتهريب الثروة السورية من اغنام العواس ، واستنزاف المياه الجوفية بالقرارات الارتجالية وبالفساد في الترخيص بحفر الابار وغير ذلك، مما كان موضع انتقادات شديدة في ندواتنا من قبل الاخصائين النزيهين ، وكذلك عمليات الاستملاك التشليحية لاراضي المواطنين الفقراء من اجل بناء البيوت الفاخرة عليها بمال الشعب لاهدائها للمتنفذين ، والتنازل الحكومي عن عشرات مليارات الليرات من الضرائب على التبغ الاجنبي للمهربين من الموعودين بالجنة ، وكذلك تملك السيارات الحكومية الغالية بدون حدود لاعدادها او لاثمانها او لمخصصاتها التي كانت تبلغ عشرات المليارات سنويا من اموال الفقراء التي تهدرها الحكومة والشركات والمؤسسات العامة والمتنفذون الطفيليون ، وسياسات التمويل بالعجز والتضخم وتجميد الاجور والاستيلاء على الثروات الوطنية وتهريبها الى الخارج وافقار الناس ونشر البطالة والجوع ، والتهجير والنزوح الجماعيين الممنهجين ، والاستيلاء على المساعدات الخارجية الضخمة بعد حرب تشرين 1973 ، والخدمة الالزامية المنهكة المستنزفة لاجيال كاملة من شباب الوطن ، اضافة لهدر النفط الوطني ، الى ان جاء في عام 2001 الهجوم الاشنع للاستيلاء على مصدر اكير دخل حكومي بعد النفط ، وهو الخليوي ، والذي كان القشة التي قصمت ظهر البعير ، على اثر مطالبتي في ندوة الثلاثاء بان لايعطى هذا القطاع الذهبي لاي شركة خاصة بل يؤسس على شكل شركة مشتركة بين الدولة(الهيئة العامة للاتصالات ) والمواطنين الذين كانوا يجبرون على دفع 60 الف ليرة سورية _ 1250 دولار _ ثمنا للرقم الخليوي اثناء ما اسمي ب "المرحلة التجريبية "، والذي طالبت باعتباره سهما لمن يشتري الرقم الخليوي براس مال الشركة المشتركة ، هذا الاقتراح الذي لو كان اخذ طريقه الى التنفيذ لاعطى بعض المصداقية لادعاءات السلطة الجديدة في سورية لتقدم نفسها لشعبها بوجه جديد ، بعد ان كان المروجون الفاسدون الكاذبون قد اطنبوا كثيرا في الاعلام المحلي بوصف المرحلة الجديدة بانها مختلفة نوعيا عن سورية السابقة ، وبانها سلطة ديمقراطية عصرية خالية من الاستبداد والفساد ، ولو تحقق اقتراحي ، لشكل البداية الفعلية لتغيير نوعي في طبيعة سلطة الاستبداد والفساد المعمرة المتخشبة في سورية ، والتي ،كما كنت اقول:"ان لم تنصلح فستقود الى انفجار اجتماعي"، وقد ادعوا ، عند اعتقالي ، باني بهذه العبارة انما كنت ادعو الى الحرب الاهلية ! وليت احدا يقول اليوم ان عدم وقف الانحرافات هو الذي ادى الى تدمير سورية ، وان كان ليس الى الحرب الاهلية، غير الممكنة في سورية ، كما اصر دائما .
ولكن ، بدلا من " التنازل "عن استملاك البلد وتشليح الشعب ، اي بدلا من الاصلاح الذي كان يمكن ان يمثل خشبة انقاذ لسورية من الانحطاط وتحررا من قوى الاستبداد والفساد العاتية التي قادت الى تجميد تطور سورية لاربعة عقود ، ثم ، لاحقا ، الى تدميرها ، الامر الذي اصبح واقعا اليوم ، وللاسف الشديد ، بدلا من ذلك كله كان يمكن ، بدون اية تكاليف ، اللهم سوى" تبييض الوجوه الكالحة "، كما اعتدت ان اقول ، كان يمكن استبعاد الخراب الداهم ونقل سورية بامان الى مصاف الدول المحترمة الناهضة . من اجل كل هذا النشاط ( المهدد لدولة الفساد ) فقد جرى اعتقالي في 9/9/2001 ، على اثر ربيع دمشق الزاهر ، مع تسعة اخرين ، ظنا من ارباب السلطة ان ذلك سيكفيهم والى الابد "شر"لهيب الاعتراض الجماهيري الواسع على فسادهم واستبدادهم ، هذا الاعتراض المحتبس في صدور عامة الشعب على مدى عقود ، ليحكموني عشر سنوات ( سجنا حتى الموت ، كما اخبروني يوم اعتقالي !) ، بدون اي مخالفة للقانون وبدون محاكمة ، وانما بعد السؤال عن موقفي من تلزيم الخليوي ، الذي كانوا يعرفون جيدا جوابه من تحليلاتي وانتقاداتي له ،المسجلة ، في ندوة الثلاثاء الاقتصادية .
ولا بد في هذه المناسبة من الكشف عن حدثين يعبران ، عن جوهر وطبيعة النظام الحاكم ، وعن الاسلوب الذي يدير به البلاد والجهات التي تتحكم بهذه الادارة وتفرض هذا الاسلوب ، مما يقيد امكانيات الدولة ويجهض قدرات شعبها ، واعتقد ان هذان الحدثان " البسيطان " يستحقان جدا الكشف عنهما ، ولاول مرة ، لما لذلك من دلالات هامة :
الحدث الاول هو اجبار جريدة الدومري على نشر مقال يرد على مقال لي عن الخليوي بعد منعها من نشره .
والحدث الثاني ، وهوالغاء مناقشة لموضوع الخليوي في اجتماع مشترك للسلطتين التشريعية والتنفيذية لمجرد رؤيتي جالسا في شرفة قاعة مجلس النواب لمتابعة المناقشة .
حدث ذلك في صيف عام 2001 ، اثناء دعوة السلطتين التشريعية والننفيذية بكامل اعضائهما ، لاجتماع مشترك لمناقشة موضوع واحد محدد مسبقا وهو التقرير الذي اعدته لجنة مشكلة من قبل رئيس مجلس الوزراء مصطفى ميرو حول الخليوي ومايدور حول تلزيم عقده من لغط بسبب الاجراءات المخالفة للدستور والقانون المتبعة من قبل الحكومة في اجراءات تلزيمه مما يضيع على الخزينة العامة والشعب السوري اضخم مصدر للدخل ، بعد النفط ، مع ميزة هامة ، هي انه دخل متزايد ، بينما النفط دخل ناضب ، هذا الرأي الذي كنت قد اثرته في ندوة الثلاثاء الاقتصادية في المركز الثقافي في المزة_دمشق ،مقارنا بين ما يجري في سورية في قطاع الخليوي وما يجري في بلدان عربية وغير عربية ، وبعد ان قدمت الموضوع للنشر في جريدة كان السماح بنشوئها من علامات الترويج للسلطة الجديدة ، وهي جريدة "الدومري" الاسبوعية الناقدة (التي اغلقت بعد شهور مع وقف منتدبات ربيع دمشق) ، وبعد تطميني بانه سينشر في العدد الجديد ، لكني فوجئت ، بدلا من نشر مقالي ، بنشر مقال مضاد "يدحض " كل ماجاء في مقالي غير المنشور ، ويقدم جداول عن نهر الذهب الذي سينهمر على الميزانية من وراء تخصيص الخليوي، الذي جرى بالفعل بعد اعتقالنا ،وبعد تمريره من قبل اللجنة التي شكلها لهذا الغرض مجلس الشعب بعد جلسته الملغاة ، كما سأبين لاحقا ، وكنت اقرا في الجريدة التي كنا نشتريها في السجن ملخص اراء اعضاء اللجنة العشرين ، والتي كانت تفوح بالمدائح لتخصيص الخليوي بدون اي مقابل ، اللهم باستثناء عضوين كانا يعارضان بقوة هذا التخصيص المجاني لمخالفته للدستور ويكرران وجهة نظري المعارضة المعروفة ، وحصل التخصيص الذي لم يكن الا مصداقا لما قلت ، وبالاخص وبعد مخالفة عقد التخصيص نفسه القاضي بوجوب ادخال مشغل ثالث بعد ست سنوات من عمل المشغلين الاولين ، من اجل تفعيل التنافس لصالح المستهلكين ، الامر الذي لم يحصل حتى اليوم ، بعد مرور اثني عشرة سنة على الموعد المتفق عليه ، ومخالفات كثيرة اخرى .
هكذا فشلت تجربة الدومري" الاعلام الحر " ، المكره على هكذا تعامل مع الرأي الآخر ، عندما قامت بنشر " دحض الراي الاخر " دون ان يعرف القراء شيئا عن الراي "المدحوض " !
وفي تلك الفترة قام عضو مجلس الشعب رياض سيف بتوزيع كتيب في نفس الموضوع يحسب فيه الاموال الهائلة التي تضيع على الميزانية الحكومية والشعب السوري نتيجة الاسلوب غير القانوني الذي تتبعه الحكومة في تلزيم الخليوي .
وقد شهدت من على شرفة قاعة المجلس النيابي التي كان يجلس فيها المواطنون العاديون الراغبون في متابعة نقاشات النواب في الخمسينات (، هذه العادة التي توقف العمل بها بعد احتلال"مجلس الشعب" للمجلس النيابي )، والتي كان حضوري الاستثنائي التطبيق الوحيد لها على مدى نصف قرن ، هذا الحضور الذي شهدت فيه حدثا فريدا من نوعه في التاريخ السوري والعالمي .
وقف رئيس مجلس الوزراء ممسكا بيده تقرير اللجنة حول الخليوي التي كلفها باعداده لمناقشته في اجتماع مشترك للسلطتين التشريعية والتنفيذية ، وقبل ان يفتح فمه ليقرأ الكلمة الاولى في التقرير واذ ب "احدهم " يدخل من احد ابواب المجلس المغلقة متجها بسرعة الرصاصة الى رئيس مجلس الوزراء ليضع قصاصة ورق امام عينيه فوق الورقة الاولى من التقرير المفتوح ، وما لبث هذا بعد ان قرأ ما عليها ان رفع نظره الى الشرفة التي اجلس عليها ، ليراني هناك ، وليقوم بقية المجتمعين برفع رؤؤسهم وينظروا في الاتجاه الذي ينظر اليه ، ليروا مارأى ، ومعظمهم لايعرفوني شخصيا ، واذ برئيس مجلس الوزراء يغلق التقرير المفتوح ويقول عبارة واحدة ينهي بها الاجتماع "الخطير": "اقترح على مجلسكم الموقر ان يشكل من بين اعضائه لجنة لمناقشة الموضوع وتتعهد الحكومة بتقديم كافة الوثائق التي تطلبها اللجنة" ، ولأشاهد كيف نهض جميع الجالسين من اعضاء مجلس ووزراء من مقاعدهم متجهين للخروج من القاعة دون ان يرتفع من بينهم صوت واحد ، ليس مجتجا ، بل متسائلا عن كيفية انهاء الجلسة قبل افتتاحها ، وعن سبب الدعوة لهكذا اجتماع كبير والتكاليف التي تصرف على مهمات سفر الاعضاء من كل مناطق البلاد الى دمشق فقط لاخبارهم عن اقتراح بتشكيل لجنة !!! ولماذا التساؤل ، اصلا ، ماداموا جميعا قد راوا من حمل قصاصة الورق الساحرة التي استطاعت الغاء اجتماع مشترك للسلطتين التشريعية والتنفيذية محدد مسبقا لمناقشة موضوع محدد مسبقا في تقرير اعدته لجنة مكلفة مسبقا ، فقط لمجرد رؤية مواطن عادي يجلس على شرفة قاعة المجلس ، ليس قائدا ملهما ، وليس عسكريا مهما ، ولا رئيس حزب معارض ، ولا قائدا شعبيا لمعارضة فاعلة ، وانما مجرد مواطن مستمع فقط !
انه مثل بالغ الدلالة ، بل ، والايلام ، عن درجة انحطاط مستوى فاعليةوجدية واهمية اهم سلطتين في سورية ، وعن كيف تداران وتوجهان وكيف تتخذان القرارات وتتابعان تنفيذها ! فما بالك بجميع السلطات والمستويات الاخرى ؟
ولم تمض ايام بعد هذا الحدث حتى اعتقل عضو مجلس الشعب رياض سيف ، احد القلائل جدا الذي فاز بالعضوية باصوات حقيقية غير مزورة ، عندما لم افز انا ، بقرار من المزورين ، وبرغبة مني ، مكتفيا من الترشيح بممارسة حقي المنصوص عليه في قانون الانتخاب ، وهو توزيع بياني الانتخابي الذي كان الوحيد من نوعه ، بمضمونه واصدائة الكبيرة ، على مدى ثلاثة عقود ، والذي لم اسلم من اكبر التهديدات لكوني طبعته ووزعته دون الرجوع الى " الجهات الوصائية " ، التي عندما اطلعت عليه وهو قيد التوزيع وضعت الخطوط الحمراء تحت كل ماجاء فيه ، اللهم باستثناءحروف الجر من والى وفي وعن ، فقلت لهم ، ترى لو شطبت كل ماوضعتم تحته خطا احمر واصدرت بيانا يقتصر على مالم تحتجوا عليه ، ماذا كان المواطنون سيفهمون منه ؟؟؟
وللحقيقة ، كان رياض سيف العضو الوحيد بين المجتمعين في مجلس الشعب في ذلك الاجتماع ( الشهير) الذي رفع صوته احتجاجا على الغاء الجلسة النقاشية ، وهو الذي كان ايضا كان سببا آخر في الدعوة الى الجلسة المشتركة ، اذ قال ، بينما كان جميع الاعضاء والوزراء يهمون بالخروج صما بكما عميا :" انه تواطؤ من السلطتين لنهب مال الدولة والشعب" .
وقد جرى ايقاف منتديات ربيع دمشق التي لفتت انظار العالم وصحفييه وهو يتابع ويتساءل : هل يمكن ان يستمر ربيع الحرية في سورية هذا حتى يعطي اكله ؟
وبعد ايقاف المنتديات جرى اعتقالنا ، ليشكل ذلك الارتداد عن تلك الوعود الوردية الترويجية اجهاضا لربيع دمشق ( البروفة ) اي التجربة والتمرين على اتهام واجهاض الربيع العربي بعد عشر سنوات ليستمر الاستنقاع والفساد والانحطاط في العالم العربي الى اجل غير مسمى .
وتعرضت منذ التحقيق معي في اليوم الاول لاعتقالي وعلى مدى سبع سنوات عشرات المرات الى سؤال واحد ، دون التوقف عند ما في هذا السؤال من وضاعة وصفاقة لامثيل لهما : الم تغير موقفك من الخليوي بعد ؟؟؟
ولا ادري ان كان بعض هؤلاء السائلين ، والعميان المضللين مثلهم ، قد استيقظوا الآن ، بعد تدمير سورية واخراجها من التاريخ والجغرافيا العالميين، وهو مافتئت آنذاك احذر منه ، ليقولوا ، وان كان في السر ولأنفسهم : هل كانت حماية ارباب الفساد وحصائلهم المنتشرة في اريعة اصقاع الارض هذه الايام والتي تضاعفت مع الكارثة ، وكذلك غض النظر عنهم وعنها ، ناهيك عن تعظيمهم حتى التأليه ، تستحق وتبرركل هذه الأثمان والتضحيات الباهظة ، ليس فقط من اعدائهم ، بل ومن جبهتهم وبين ظهرانيهم ايضا ، والتي لم يعرف العالم مثيلا لها ؟
والسؤال الآخر الذي لايقل عن هذا السؤال جدارة وخطورة يجب ان يوجه هذه الايام للكثيرين ممن اسموا انفسهم " ثوارا " او " معارضين " لنظام الفساد والاستبداد ممن لايعرفون ، او ممن لايريدون ان يتذكروا شيئا عن كل التضحيات السابقة الهائلة التي قدمها المناضلون ضد الاستبداد والفساد على مدى عقود ، والذين لو كانوا قد حظيوا بمشاركة او احترام او تقدير اوسع لتضحياتهم في حينها ، ولو بالتواضع من قبل هؤلاء الادعياء في الشراهة لاقتناص فرص الرفاهة والنعيم ، التي كانوا يشرئبون للوصول اليها والاستزادة منها باي ثمن ، اما كان بالامكان لجم الانحطاط والفساد والاستبداد وحصر اربابهما في اضيق الحدود ، والتوفير على سورية كل هذه الكارثة الماحقة التي لاخروج من تحت ركامها ، اللهم الا على طريقة " ضواحي الف ليلة وليلة " التي يجري الترويج لها هذه الايام والتي تشبه الدجاجات المكتنزة في دعايات مكعبات ماجي الحقيرة ، او لو كان هؤلاء امتنعوا عن المساهمة باحتقار وتجاهل او طمس تلك الجهود والتضحيات ، ليخرجوا بعد وقوع الفاس بالراس تحت عباءة عبارة" اسقاط النظام بكل رموزه ومرتكزاته " ، ولا اقصد هنا اطلاقا احدا من سواد الشعب ، اولئك الذين كانوا يلهثون وراء تحصيل لقمة العيش وضرورات البقاء لهم ولاسرهم ، والكثير من هؤلاء وجدوا انفسهم في قلب المعمعة بين اسنان اسماك القرش والحيتان المغذاة من قبل الاعداء الخارجيين العتاة "المتهاوشين على الصيدة المغلوبة _ سورية " وليجدوا انفسهم مرة اخرى يضحون بحياتهم وحياة ابنائهم وبالارض التي ورثوها ابا عن جد ، سارحين في الاصقاع لايلوون على شيء ولا احد يمد اليد اليهم بما يقيم اودهم او يحميهم من غوائل الطبيعة القاسية الجرداء وكانهم قد اعيدوا الى حياة القطيع الوحشي قبل عشرات آلاف السنين .
ايها السوريون ، اعلموا ان كل ما هو معروض عليكم اليوم ليس الا قبض جمر او قبض ريح ، ولا ينقذكم من اهوالكم الحاضرة والقادمة، وما افظعها ، الا عقلكم وضميركم واجتماعكم الانساني الوطني ، فقط لاغير !