السياسي والثقافي

السياسي والثقافي

Aug 31 2019

حسين محمد علي
حين غامر "بروميثيوس" متسللاً إلى مملكة الإله "زيوس" وسرق النار، نار المعرفة، ترتب على تلك المغامرة محنة إنسانية ممتدة، وعقاب قاس، أقول حين فعل بروميثيوس، ذلك بدأت مغامرة العقل الأولى، عبرت عنه تلك الأسطورة في تراجيدية أخاذة، ذات دلالة معرفية فلسفية، وجودية، لعل أولى دلالاتها أن النار باتت رمزاً للمعرفة بقوة نورها الكشاف، وأحياناً بقدرتها على الإحراق والاكتواء بها.
والحال.. كان على الإنسانية أن تقطع طريقاً طويلاً في مراكمة المعارف والخبرات، عبر زحمة الاسئلة التي حاصرت الإنسان، منذ وعيه لذاتهن ووعيه لما يحيط به، طبعاً كان صعباً أن يقبض على إجابات شافية ترضي فضوله.
لقد رمت الأقدار الإنسان في لجة الوجود والكينونة، والاسئلة القلقلة المتوالدة وكتب عليه أن يخوض غمار الكشف والبحث في متوالية لا نهائية، وهنا بالذات كانت المحنة، والدراما الوجودية، ولزوم ما يلزم وما لا يلزم حتى يومنا، وتحول الوجود من حوله إلى معادلة جبرية فيها بعض المعالم، وعدد لا حصر له من المجاهيل، حيث كيف، لماذا، متى وأي وإلى أين، حيناً اهتدى وأكثر الأحايين انكمش على نفسه خائباً حائراً وقد هربت الإجابة منه!!
هنا في خضم الحراك الإنساني المتلاطم، وضع الإنسان قدمه في أرض المعرفة وانتقل من حدود الممارسة الحياتية، إلى آفاق المعرفة، وهكذا راكمت البشرية جبالاً من المعارف، والثقافات في حيزيات جغرافية عديدة، كانت تتجاوز وتتداخل، وتنغلق، وتتفاعل، وأصبح الكفار حقيقة كونية، وعبرت عن العقل الإنساني في أعلى حالات استيعابه، وتمثله ولارتقاء به.
فالآثار الفكرية لأمة أو أي مجموع بشرية تصبح ملكاً مشتركاً لجميع الأمم كما يقول ماركس، ويعود الفضل في هذا التبادل والانتقال في عصرنا إلى الرأسمالية التي حطمت أسوار الوحدات الإقطاعية لتقيم السوق القومية، وعلى انقاض الانعزال القطري والقومي، وليس سراً أنه عبر انتقال السلع والانتاج المادي، انتقلت النتاجات الفكرية ايضاً.
ومن هنا فقد اكتسبت الثقافة في هذه السيرورة الصفة المحلية القومية كونها تمثل مجموع خبرات وقيم وتصورات ومعتقدات ومعارف، فاكتسبت بعدها العولمة كذلك.
ودائماً...كان أسلوب الحوار بين الثقافات هو الفكر.
أقول.. في وحدة هنا التوتر الديالكتيكي تمضي السيرورة الإنسانية لمعانقة مطلقها الإنساني، وبالتالي بلوغ الإنسان إلى حالة يتعالى فيها على التقوقع والاجتزاء والاغتراب، وبلوغ الطاقة الإبداعية، بالعقل الخلاق المبدع حيث يصبح الإنسان موسيقياً، وحداداً أو مفكراً أو عامل بناء أو سياسياً، وأقول مطمئناً أنه لا وجود لثقافة خارج البنى الاجتماعية بمعنى أن الثقافة مندمجة بالبنية الاجتماعية في نظام تفاعلها المتبادل المتميز.
الثقافة تعريفاً
في أكثر التعاريف شيوعاً، وبساطة، وبعيداً عن الحذلقة الأكاديمية.. الثقافة هي مجموعة القيم المادية والروحية والفكرية التي راكمتها البشرية والمتوارثة عبر الزمان..
وفي هذه الحال، فالقلاع والأسوار ثقافة، ودور العبادة ثقافة، ونمط العيش من طعام ولباس ثقافة، ومنظومة العقائد ثقافة، وموروثات الفكر والفن ثقافة وطريقة التفكير ثقافة، والصناعة والزراعة ثقافة، والسياسة وأنماط الحكم ثقافة، والقيم الأخلاقية والجمالية والأعراف ثقافة.
الإنسان-إذاً-وتحديداً الإنسان المثقف ككائن اجتماعي هو منتج وحامل تلك القيم في الآن معاً، في فضاء رحب يجد تعبيره في حقل الممارسة المعرفية، استناداً إلى الحاضنة الاجتماعية التي ينتمي إليها؛ فكل تشكيلة اجتماعية اقتصادية تبدع ثقافتها- وفكرها- وقيمها- وهنا- بالذات- يكمن ثراء وتنوع وشمولية الثقافة في أي مجتمع.
الكرة المعرفية تكبر، وتزداد حجماً عبر تدحرجها في قارة التاريخ فما من معرفة تموت- وإنما هي محكومة بقانون التحول والصيرورة من حالة إلى أخرى، ولذلك نحن نحتاج إلى بوذا، وسقراط، وأفلاطون كما نحتاج إلى عيسى وماني وزرادشت ومحمد وماركس، وابن خلدون وفوكوياما، وعبدالله أوجلان.
وفي السياق لا بأس من أن أعرج قليلاً إلى دلالة كلمة <<المثقف>> في العربية والكردية لما يحمل الجذر اللغوي من دلالة معرفية عميقة، فجذر <<ثقف>> آت من فعل محسوس مادي هو تثقيف الرمح، أي إقامة اعوجاجه، وجعله مشذباً خالياً من أي نتوء وعوج.
واعتقد وانتم كذلك، أن هذه التسمية تحمل الكثير من دلالات عقلية وأخلاقية، اولاها هي "الاستقامة" وإعمال الفكر، والتخلص من السلوكيات الشائنة المشوهة، فالثقافة لا يجمعها جامع مع المكر والخبث والتذاكي والالتواء والتلفيق، وإزدواجية السلوك، والتمترس الإيديولوجي.
أما معادلها المعرفي في لغتنا "روشن بير" فقد اشتقت من النور والضوء بمعنى "المتنور".
واعتقد أن التسمية على صلة وثيقة بمفهوم النار، نار المعرفة التي جاء بها سارق النار بروميثيوس إلى مملكة الناس، والخلفية الحضارية هنا واضحة بيننا نحن الكرد، والثقافة الآرية، وهي ليس مجدد صدفة لغوية، بل جذر متأصل في التاريخ المعرفي.
علاقة المثقف بالسياسة/ بالسلطة
بداية لا بد من طرح اسئلة قد تكون إشكالية.. هل السياسة حالة معرفة؟ أهي علم أم فن أم هي الاثنان معاً؟ وكيف تعايشت السياسة والثقافة عبر الزمن؟ أكانتا في حالة من تقابل أم تداخل أم كانتا في اختلاف وتنافر، وما حدود الثقافة والثقافة والسياسة؟
إن المقاربة المعرفية كمثل هذه الاسئلة، ومحاولة الإجابة عليها، هي أيضاً مقاربة معرفية تاريخية موغلة في القدم، وتعكس مواقف رجالات الفكر والفلسفة فيها في الاختلاف والائتلاف وبالعودة إلى قراءة أوراق فلسفية قديمة، نجد انشغال فيلسوف كبير بهذه المسألة، مسألة العلاقة بين السياسة والفلسفة، هو أرسطو.
فمنذ تلك الأزمنة وضع أرسطو مسألة العلاقة بين السياسة والفلسفة "المعرفة" أو بين السياسي والفيلسوف كحالة ثقافية راقية، منذ ذلك الزمن البعيد أدرك أرسطو برؤية صافية نفاذة مرجعية هذه العلاقة مكتشفاً الترابط الجدلي في هذه المسألة بين وجهتين لم يستطع غيره من قبل أن يكتشف سر هذا الترابط العضوي بينهما، ويرى أرسطو أنه من العبث أن نحسم أمر هذه العلاقة بحكم مطلق يؤدي إلى الفصل المطلق بين السياسي والمثقف، فالدولة الفاضلة كما رأى أرسطو، هي تلك التي تقوم بأعمال فاضلة تحقق السعادة للناس، فالسعادة والأعمال الفاضلة، أمران متماثلان، فالقول بأن رجل السياسة لا يمكن أن يأتي بعمل فاضل أو العكس، قول متعسف، فالموقفان هنا حق في جزء وباطل في جزء، وهو يشير هنا إلى اعتبار المعرفة فاقدة الفعالية، والسياسة تعني الفاعلية فالأفكار الفاعلة، غرضها إحسان العمل، وشكلاً من الفاعلية، وهذه الفكرة سيتم التعبير عنها في الثقافة الفرنسية فيما بعد، وهي أن الأفكار تقود مسيرة الإنسانية.
أرسطو رأى أن السياسة هي حالة ثقافية فلسفية، فالأولى تعنى بالعمل والنفع العام والأخرى تعنى بالأفكار والتصورات في واقعها الذهني والوجداني الصرف.
لكن ما السياسة، ومن السياسي؟
مرة أخرى نرجع إلى الزمن البعيد، إلى أرسطو، فهو يرى أن السياسة لا تعني عنده السلطة بما هي مؤسسة للقهر والقمع فقط، إن السياسة عنده فن وعلم وفلسفة.
وقد اشتغل على هذا العلم كما اشتغل على الفلسفة والمنطق، وعلم الاخلاق، وعلم التاريخ، وعلم الطبيعة، هو ببساطة صنع السياسة.
في عصرنا انتهى لينين إلى أن السياسة علم وفن، وفي سياق تأكيده على الصفة العلمية لهذا المفهوم، نرى أن السياسة لديه أشبه بالجبر منها بالحساب، بل رأى أنها أشبه بالرياضيات العالية منها بالرياضيات الأولية.
وقد نشأ في عصرنا هذا علم يسمونه "علم الاجتماع السياسي" وظيفته السعي لفهم السياسة بكل تعقيداتها وتنوعها، وكونها علماً، وهي بهذا المفهوم تشكل مكوناً من مكونات الثقافة البشرية والوطنية والقومية، فالسياسي إذاً هو من يعمل في أحد حقول هذه الثقافة.
ورأى الدكتور حسين مروة أن علاقة التفاعل بين السياسي والمثقف كانت كالقانون من الإطراء والموضوعية، وهذا القانون من السعة بحيث لا نجد موقفاً للسياسي لا يحضره المثقف، ولا موقفاً للمثقف يغيب عنه السياسي.
واتسمت هذه العلاقة بالتداخل والتصارع، سواء كان هذا رجل دولة وصاحب سلطة أم كان رجل فكر يعمل في حقل الثقافة السياسية أو حقل السياسة الثقافية.
والحق أن التاريخ قديمة وحديثة شهد ظاهرة رجال ثقافة مدججين بالسياسة إلى ما فوق العنق، ومعسكرات للثقافة السياسية في حالة حرب، والطرفان كانا يحاولان هندسة المجتمع وفقاً لرؤية كل منهما، وسط واقع شديد التعقيد متمظهر في مركبات اجتماعية وسياسية وثقافية محكومة طبعاً بحركات الصراع الاجتماعي بمستويات متباعدة أحياناً ومتقاربة أحياناً رغم أن لهذه القاعدة كشأن كل قاعدة استثناءات ملحوظة، لكنها استثناءات باهته تزيد القاعدة وضوحاً، ذلك أن السياسي والثقافي كانا يتقاسمان الساحة نفسها، ومن هنا كان التنازع والتجاذب مظهراً من مظاهر الواقع الاجتماعي السياسي في مجتمعاتنا.
عصرنا وتجليات هذا التنازع بين الثقافي والسياسي
بعد زوال الأوان العثماني بكل عتمته واستبداده وانحطاطه، انبثق "عصر النهضة" رغم صعوبة وضع حدود صارمة بين عصر وعصر، لكن يمكن أن نلحظ علامة فارقة كبيرة في بزوغ عصر النهضة وهي تتمثل بنهوض ثقافي عارم اقترن اقتراناً عضوياً وموضوعياً بنهوض سياسي تمثل في صبوات وأشواق شعوب السجن العثماني إلى الانعتاق، والتحرر، وبداية ظهور حركات سياسية وفكرية من كل المشارب والاتجاهات؛ قومية دينية، علمانية، يسارية، كانت تتلمس طريقها تحت الشمس، ولا نحتاج هنا إلى كلام في المعطيات الجاهزة بهذا الصدد في إطار الثقافة المدرسية التي تعلمناها.
ومرة أخرى يمكنني القول دون تردد، بأن الظروف التاريخية التي جاءت بعوامل النهوض الثقافي هي نفسها التي جاءت بعوامل النهوض السياسي.
الأمر اللافت في موضوعنا هنا هو أن حركة النهضة نفسها بكينونتها العضوية وبعناصر إيقاعها البشرية، إما انطلقت بوجود مزدوج، أي بوجود ثقافي سياسي أو سياسي ثقافي رجالات عصر النهضة هم جميعاً، إما مثقفون تحركوا سياسياً، وإما سياسيون تحركوا ثقافياً وهنا أضع على مسامعكم بعض المعطيات والحقائق التي خرجت بها من قراءاتي للواقع السياسي والثقافي.
1-الرافعة الاساسية للحراك السياسي كما تبين كانت الثقافة بمعناها الواسع من نثر وشعر وفكر تنويري. يؤكد هذا أن رجالات الفكر والثقافة انغمسوا عميقاً في السياسة واكتووا بها.
2-تميز رجال السياسة بتحصيل ثقافي واسع الطيف استمدت نفسها من الفكر الأوربي الليبرالي التنويري، مطعماً بالثقافة الإسلامية والقومية مع تفاوت في مستوى هذا التحصيل أحياناً الإسلامي أكثر حضوراً وأحياناً الليبرالي.
3-الاتجاهات والمذاهب السياسية والفكرية التي طفت على السطح، تميزت بالتنوع وتحركت في واقع اجتماعي شديد التنوع والتعقيد، ذلك أن مجتمعاتنا عانت من ظاهرة تعايش الانماط الاجتماعية والاقتصادية من بداوة وزراعة وأنماط مدينيه، وتعيش حالة من الهيستيرية الحضارية وانفصام وازدواجية لم يبدأ منها حتى اليوم، وضاع أرباب الفكر بين التراث والأصالة والهوية والخصوصية، القديم والجديد، الإيمان الديني والعلم.
4-الكثير من الاتجاهات الفكرية بفعل الممارسة السياسية تحولت إلى ايديولوجيات إيمانية يقينية وتابوهات اغتصبت الوعي النقيض بدم بارد، الأمر الذي أضعف الكل، ولم تؤسس لحالة صحية تراكمية، وسقطنا في مصيدة الشكلانية المفرطة في السياسة كما في الثقافة، وباتت الايديولوجيا سبة ولوثة في الخطابات السياسية والثقافية في الفترة الأخيرة فكانت البديل هو البيروقراطية الحزبية الضيقة.
5-الكيانات الحزبية السياسية وحتى السلطوية عانت من حالة تمزق مقلق فكانت الانشقاقات اشبه بانقسامات خلوية سرطانية، ومرة أخرى كان السياسي في مواجهة ما هو ثقافي في إطار الكيان الواحد فشهدنا تمردات ونزقاً وانسحابات للمثقفين وهم يلعنون السياسة والساسة وانطواء على الذات، وهؤلاء كانوا بغالبيتهم من الفئة الوسطى وهي الحزام الناقل للثقافة، واصبحنا إزاء أزمة حقيقية في الواقع الاجتماعي السياسي فالبنية الاجتماعية للأحزاب السياسية بشكل عام كانت من البرجوازية الصغيرة المنحدرة من الريف، وهذه الفئة في بلداننا النامية تحمل تعدديتها الثقافية بشكلها البدائي الفج والمتخلف، وهذه التعددية قادرة على دمج الوعي الاجتماعي باليساري والديني والعلماني والقومي والطبقين وبالتالي ضاعت بنيتها العقلية وتمزقت، ايديولوجياً وروحياً وثقافياً.
في وقائع الحياة السياسية كما شهدنا، كان المثقف ينظر إليه بشيء من الريبة والتوجس فالمثقف كان دائماً ذا ميل إلى الشغب والمشاكسة في حياته الحزبية، كثير الاسئلة، عصي على الخضوع والتكيف للأطر الحزبية، المسألة هنا كما أرى أن السياسة محكومة بما هو يومي وما هو متحرك، متبدل، تسلك طرقاً متعرجة، وأحياناً ملتوية، بينما الثقافة تبحث في منظومة قيم مطلقة يقينية، ومحكومة بمثاليتها المعرفية، وتسلك أكثر الطرق استقامة.
ومن هنا هذا التنازع والتوتر الشديد في الممارسة السياسية والثقافية بن الثابت والمتحول هذه الإشكالية ليست بنت اليوم وليست بنت عصرنا، إنما هي تتوغل عميقاً في تاريخ الوعي البشري كما أشرت في المقدمات الآنفة، ومقاربة أرسطو لها، ويمكن في السياق أو أورد العديد من الشواهد التاريخية المبهرة والجارحة، فلقد اصطدمت الثقافة بمعناها المعرفي الشامل بقسوة السياسة منذ أن حكم على سقراط بالموت سماً، وتلك كانت إحدى أتاوات التاريخ الأليمة، سجلها تاريخ المعرفة الإنسانية.
كذلك دفعها الحلاج والسهروردي القتيلان، وغيلان الدمشقي، وابن المقفع وبولس الرسول وموسى عنتر وهارنت دينك، وكاد أن يدفعها عزيز نسين وفيكتور غارا وبزودا السياسة في أحيان كثيرة وبكل أسف مارست مجونها العبثي في العديد من محطات الممارسة السياسية، علماً أن هذه الظاهرة تسمح كذلك بتعدد القراءات بحسب الخلفية الثقافية والايديولوجية لكل منا، ولا تسمح بإجابات واستنتاجات جاهزة قاطعة بالضرورة.
الحزب أي حزب كجهاز تنظيمي دقيق، ومشروع لتغيير المجتمع، وإنما هو ماكنة طاحنة تفرخ الاغتراب، والانسحاق الروحي للمثقف المطمئن لقناعاته الفكرية ورؤيته المثالية للأشياء، فيصل بعضهم إلى حال من انسداد الأفق، وأزمة الانتماء والتواصل.
وفي هذا السياق لا بد من الاعتراف أن الاحزاب السياسية ليست نوادي للنقاش والثرثرة وهي لعبت دوراً لا يستهان به في التعبئة الثقافية، وإيجاد حالة ثقافية بدت في بعض الأوقات راقية وفاعلة، بل إن قيادات الأحزاب كانت ذات تحصيل ثقافي من الطراز الرفيع لدرجة أنها أدت دوراً تنظيمياً كبيراً ومؤثراً في أجيال عديدة، وهنا أميز حتماً بين حملة الشهادات والمثقف كحالة معرفية، فليس كل حامل شهادة بمثقف والعكس صحيح أيضاً.
فالإشكالية بين المثقف والسلطة تكمن أساساً في اشكالية التنازع الموضوعية بين الواقع والممكن ومن البديهي ان السياسي ليس دائماً هو المدافع عن الراهن، والمثقف ليس دائماً هو المدافع عن الممكن، وخاصة من مثقفي السلطة.
وكثيراً ما نجد تبادلاً للأدوار، ونجد المثقف في جمحه النقدي لا يقدم أي تصور بديل سوى أن يمارس طقوسه النقدية، والتي كثيراً ما تغدر الحقيقة الموضوعية لتأخذ شكل النميمة السافرة للإيقاع بخصومه، ويتحول نقده إلى مجرد هذيان فجائعي ونواح مفتعل على كارثة عبقريته المهدورة على مذبح الساسة، فيرجم المجتمع، ويمارس هجائية مقذعة لا تبقي ولا تذر، ويتبنى مقولة دون كيخوته في أن النصر في الجرأة وليس في كسب الوقائع.
استطيع القول، إن العديد من المثقفين وأنا لا أعفي نفسي أيضاً، كانوا عرضة لتأثرات عديدة أفقدتهم التوازن المطلوب، وبخاصة في الفترات العصيبة المتوترة، والحاضنات السياسية والاجتماعية، في ظل الإرهاب الفكري من قبل أنظمة القمع والجبروت، وإغراءات ملكوت المال، حتى أنهم تعرضوا لوباء الأيديولوجيات المضادة، فغيروا قناعاتهم، واصبحوا في الخندق الآخر.
ها نحن اليوم شهود على انحسار المد الثقافي والمنافات المعرفية الإيجابية التي كانت في السبعينات والثمانينات، ونشهد هذا العزوف عن الكتاب والمطالعة، وصرنا نبكي ونتحسر على تلك الأزمنة الجميلة، زمن المطارحات الثقافية، والشغف بالكتابة شعراً ونثراً، وضمور الوجدان الثقافي إلا من قلة تعيش في عزلة، ولا يكاد أحدهم يسمع بالأخر، وكيف أن النزعة الاستهلاكية قد فتكت لا بالمثقف فقط بل بالسياسي أيضاً.
صورة المثقف اليوم مرتبكة، لأن صورة المهمة ذاتها التي يتصدى لها مرتبكة، ففي عصر عاصف، بالمتغيرات والأحداث يبدو أحياناً أن السياسي اكثر تماسكاً من المثقف في فهمها، والاستعداد لها، والسياسي أبداً يسعى إلى تدجين المثقف وإدخاله بيت الطاعة الحزبي ليكون مجرد "زمبرك" في هذه الآلة الحزبية إن العلاقة بين الثقافة والسياسة بالإضافة إلى الالتباس الذي كان يشوبها بالنسبة لطرفيها ظلت عرضة لتجاذب سلبي وتمزقات ساهمت في خلق فجوة وأفرزت مجموعة من الأوهام في أن يكون طرف بديلاً عن الآخر، وانتجت خيبة أمل شملت الجماهير وأفقدتها يقينها.
إن أكثر ما يثير حنق المثقف، هو أن يرى الممارسة السياسية تجري بطريقة أقرب إلى البدائية وتقارب الواقع بطريقة تجريبية يحكمها منطق الخطأ والصواب والتي لا تعدو أن تكون شكلاً من أشكال حسد الانصار عن طريق الترغيب، وتوظيف يسمح لعلاقات القرابة والصداقة القبلية واللجوء إلى المبالغة والتخويف من الآخر، وبالتالي تكون المنظمة السياسية إطاراً هشاً لشرائح غير متجانسة مما يجعلها أقرب إلى تجمع انتهازي معرض دائماً للتفسخ والتغير لصالح بعض الأفراد، وتآكل جماهيريتها مع الأيام.
والحال فإن الطرفين حين يحاولان إضعاف بعضهما، عندئذٍ تكون الكارثة ويخسر الطرفان، وبالتالي يصبح المشروع السياسي في مهب الريح.
إننا نرى غالباً أن السياسي يلجاً لا إلى معاقبة المثقف، بل ومعاقبة الثقافة باعتبارها ترفاً وخيالاً، وفي أحسن الأحوال، تتم صياغة حلول تلفيقيه لا علاقة لها بالوقاع المحسوس، وتدخل فيها الثقافة في عزلة قاتلة.
في غياب الثقافة فإن أي انتصار سياسي يبقى مؤقتاً وقابلاً للإلغاء والتجاوز مالم ترافقه نهضة واختراق ثقافي ذي معنى.
مما سبق أود التأكيد مرة أخرى أن المثقف ليس بديلاً عن المنظمة السياسية، كما أن العمل السياسي الذي لا يستند إلى الثقافة غير قادر على مواجهة المشاكل، وإذا حرص المثقف على دوره النقدي فلا تفتنه لعبة السياسة ومناوراتها وعليه أن يمتنع عن الافتاء والتبرير لأي حدث سياسي بناء على طلب.
فالسياسة والإيديولوجيا هما نسق من الآراء والافكار والنظريات السياسية والحقوقية والاخلاقية والجمالية والفلسفية يمكن أن تكون عاملاً إيجابياً في تطوير الثقافة الوطنية، ويمكن أيضاً أن تلعب دوراً سلبياً إذا أصبحت قيداً على الإبداع أو شكلاً نمطياً للتفكير والتعبير، أو حين يُعتمد جزء من موروثها النضالي رادعاً للتفكير الحر وموقفاً تبريرياً استناداً إلى ما لديها من مخزون تاريخي لتماشى القائم وتنسج معه.
والوقائع أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك، أن التواطؤ الصريح أو الضمني نتيجة الوهم أو القراءة الخاطئة بين قسم من المثقفين والمؤسسة السياسية كان الهدف منه اغتيال الحالة الديمقراطية كمناخ إن اندفاعة الاغصان إلى الخارج إلى الأعلى هي بمقدار ما يكون اختراق الجذور للداخل ومن هنا نشأت حالة جديدة، قوة المثقف وجدارته مستمدتان من خلال فكر محدد أولاً، ومن خلال ارتباطه بمؤسسة سياسية ثانياً، وندخل هنا أيضاً إلى مقولة أن السياسة هي انعكاس لواقع موجود ومحصلة له، بينما الثقافة مهمتها صناعة واقع أفضل.
والصحيح أن الحياة السياسية السليمة في بعض المجتمعات هي نتاج للتوازن الذي حصل في هذه المجتمعات وتحررها من عقدة توهم الخصم، والتخلص من معارك وهمية تستنزف الكثير حين نضع الثقافي في مواجهة السياسي، وحين نضع القيم السائدة بما فيها المفاهيم التي تعطى للغة والتاريخ والاخلاق والدين تفسيراً أحادياً لها صفة التعميم والأخلاق، وبالتالي يندر التعدد والاجتهاد والاضطرار فيما بعد إلى دفع فواتير باهظة، مع ما يتبع من ضمور المبادئ وخاصة الثورية لينتهي الأمر في النتيجة إلى الدفاع عن الصيغة القائمة بأي ثمن.
وما ستكون عليه الأمور هو أن كلا الطرفين يعاني من قحط رؤيوي عصي على إحداث ذي شأن بسبب غياب النسق العقلاني في الحياة والثقافة والفكر كما في السياسة وفي مجتمع متعدد الانماط تتعايش تحت سقفه كل المتنابذات والمتنافرات والمتناحرات من البدائية إلى الحداثة.
والوقائع تقول، أنه لم يتكون عندنا سياسي محترف بالمعنى لسيو اجتماعي، ولامثقف عضوي محترف بالمعنى المعرفي الشامل الآمن رحم ربي، كل ما هنالك، سياسي وجد نفسه بالصدفة في خضم صراع سياسي حزبي يوزع توجيهاته الكئيبة، ومثقف وضع قدمه في بحر الثقافة دون أن يقامر كثيراً في الإبحار وسط الأمواج المتلاطمة، مدجج فقط بمنظومة ثقافية يستظهرها عن ظهر قلب، يجيد النقد والهجاء، إن المثقف في تحلله من المسؤولية، واتهام ورجم السياسي، إنما يعبر عن عقل فوضوي، ويشرنق نفسه في وهم متضخم، فيتعالى على الأحزاب والتنظيمات.
لا يجوز أبداً أن نجفف النهر بدعوى إقامة الجسور، ولا بناء جسور فوق أحواض ووديان جافة.