الدم من أجل التراب: الإغراءات القاتلة للسیاسات العرقیة

الدم من أجل التراب: الإغراءات القاتلة للسیاسات العرقیة

Jul 08 2019

لارس-إیریك سیدرمان* – (فورین أفیرز) 12/2/2019
ترجمة: علاء الدین أبو زینة

منذ الثورة الفرنسیة، شكلت القومیة nationalism- فكرة أن حدود الدولة یجب أن تتوافق مع المجتمعات الوطنیة- المصدر الأساسي للشرعیة السیاسیة في كل أنحاء العالم. وبینما تنتشر القومیة من أوروبا الغربیة في أوائل القرن التاسع عشر، فإنھا أصبحت عرقیة في طبیعتھا باطراد. وفي الأماكن حیث لم تتطابق الدولة والأمة، مثل ألمانیا وإیطالیا ومعظم أوروبا الشرقیة، مالت الأمة إلى تعریف نفسھا بالعرق، وھو ما أفضى إلى عملیات عنیفة من الوحدة والانفصال. وفي بدایات القرن العشرین، ازداد عبث القومیة العرقیة بالحدود السیاسیة، لتقود إلى تفكك الإمبراطوریات متعددة الأعراق، بما فیھا إمبراطوریات ھبیسبورغ، والعثمانیة والروسیة. وبتغییره حجم الوحدات السیاسیة لأوروبا، أدى ذلك إلى تقویض توازن السلطة وأسھم في نشوب حربین عالمیتین.
ولكن، عندئذ جاءت الأعراف والمؤسسات اللیبرالیة التي تأسست في أعقاب الحرب العالمیة الثانیة. وتمكنت المبادئ والقواعد، مثل التكامل الإقلیمي والحقوق العالمیة للإنسان، والھیئات مثل الأمم المتحدة، من تقلیل الصراع القومي-العرقي في معظم أنحاء العالم. والیوم، أصبحت الحروب الكبیرة بین الدول والاستیلاء العنیف على الأرض كلھا أشیاء من الماضي تقریباً. كما انخفض معدل الحروب العرقیة أیضاً.
لكن القومیة العرقیة عادت الآن إلى الصعود، مع نیة الانتقام. في العام 2016، اختار المقترعون البریطانیون مغادرة الاتحاد الأوروبي، على أساس اعتقاد بأن الرؤیة ما-بعد-القومیة لھذه الھیئة قوضت السیادة البریطانیة وھددت بتعرض المملكة المتحدة لاجتیاح اللاجئین القادمین من أفریقیا والشرق الأوسط، والأجزاء الأقل تقدماً من أوروبا. وفاز دونالد ترامب برئاسة البیت الأبیض في تلك السنة نفسھا عن طریق اللعب على وتر المخاوف من أن الولایات المتحدة تتعرض للغزو من المكسیكیین والمسلمین. وعندما تولى المنصب، لم یشتغل ترامب على تأجیج النزعات القومیة العرقیة فحسب؛ وإنما شوه وألحق الضرر بالقواعد والمؤسسات التي صممت لإنقاذ الجنس البشري من مثل ھذه القوى.
اعتنق قادة آخرون في العالم بشغف نسخھم الخاصة من القومیة العرقیة. وعبر أوروبا، كسبت الأحزاب الشعبویة الیمینیة التي تعارض الاتحاد الأوروبي والھجرة حصصاً انتخابیة أكبر. بل إنھا أصبحت تتمتع بسلطة تنفیذیة في كل من النمسا، وھنغاریا وإیطالیا والنرویج وبولندا –من بین أخریات. وقد استھدفت ھجمة القومیة العرقیة المھاجرین وغیرھم من الأجانب، لكن الأقلیات العرقیة الموجودة منذ وقت طویل في البلاد كانت على الطرف المستقبِل لھذه الموجة أیضاً، كما ظھر من عودة صعود معاداة السامیة في ھنغاریا، وتزاید التمییز ضد مجموعة ”الروما“ في إیطالیا. ورفضت كل من البرازیل، والھند، وروسیا وتركیا، التي كانت ذات مرة من بین أكثر الدیمقراطیات الناشئة وعداً، القیم اللیبرالیة باطراد، وھي تُعرف أیدیولوجیاتھا الحاكمة بمصطلحات عرقیة ضیقة، وتمنح بذلك المتشددین مزیداً من المتسع لمھاجمة الذین لاِ ینتمون إلى المجموعة العرقیة المھیمنة. وتمارس القومیة العرقیة الیوم نفوذاً أكبر مما كانت تفعل في أي وقت منذ الحرب العالمیة الثانیة.
تصاعدت الشكوى من ھذه الحقیقة لمختلف الأنواع من الأسباب، من الارتفاع في جرائم الكراھیة ضد المھاجرین الذي تسببت به، إلى الضرر الذي ألحقته بالنظام العالمي لما بعد الحرب العالمیة الثانیة. ومع ذلك، فإن العنصر الأكثر إثارة للفزع في القومیة العرقیة الراھنة ھو أنھا یمكن أن تتسبب بعودة العلل التي صاحبت صعودھا السابق: الاضطرابات الكبیرة العنیفة، سواء في داخل الدول أو فیما بینھا. وفي حال واصلت القومیة العرقیة مسارھا الحالي، فإنھا تھدد بإذكاء الاضطرابات الحضریة المزعزعة للاستقرار في الدول متعددة الأعراق في كل أنحاء العالم -بل وحتى إثارة الصراعات الحدودیة العنیفة التي یمكن أن تعكس وجھة التراجع الطویل للحروب بین الدول. ولذلك، یحتاج السیاسیون إلى مقاومة الإغراءات الانتخابیة التي تنطوي علیھا السیاسات الإقصائیة في الوطن، وإعادة تأكید التزامھم بالقواعد والمؤسسات التعاونیة في الخارج. إن الذین یلعبون بالقومیة العرقیة، إنما یلعبون بالنار.
لقد عادت
في نھایة الحرب الباردة، ظھرت إشارات تحذیریة من أن الصراع العرقي ربما یعود. ولكن، في ذلك الوقت، بدا أي خوف من حدوث ذلك فعلاً غیر مبرر. وكما أشار الباحث تید روبرت غور في ھذه المجلة في العام 2000، فإنه على الرغم من العنف الذي شھدته یوغسلافیا السابقة ورواندا، فإن معدل تواتر الصراعات العرقیة انخفض في الحقیقة منذ أواسط التسعینیات. وفي الإشارة إلى سیاسات الاشتمال والتسویات البراغماتیة التي منعت وحلت الصراعات العرقیة، قال إن الاتجاه نحو السلام یمكن أن یستمر. وعكست مقالة غور تلك التفاؤلیة اللیبرالیة التي وسمت العقود التي تلت انتھاء الحرب الباردة. كانت العولمة تحول العالم. ولابد أن الحدود تتلاشى. ولم تكن تلك التفاؤلیة خیالیة ببساطة؛ الیوم، ما یزال الصراع العرقي أقل شیوعاً بكثیر مما كان حاله قبل ثلاثة عقود.
ثمة سبب كبیر یجعل الحكومات تستوعب الأقلیات بشكل متزاید. كان ھذا ھو ما استنتجه علماء السیاسة، كریستیان غلیدتتش، وجولیان ووكرفنیغ، وأنا، بعد تحلیل بیانات مجموعة من العلاقات العرقیة بدءاً من العام 1993. وقد وجدنا أن التمییز ضد المجموعات العرقیة واستبعادھا من السلطة التنفیذیة - وھي محركات رئیسیة للصراع- تتراجع على مستوى عالمي. وباستثناء الشرق الأوسط؛ حیث الأقلیات في البحرین والعراق وإسرائیل والسعودیة وسوریة، تواصل الكفاح من أجل النفوذ، فإنه یتم احتواء المجموعات العرقیة بازدیاد في صفقات لتقاسم السلطة. ومنذ الحرب العالمیة الثانیة، ارتفعت نسبة سكان العالم الذین یعیشون في بلدان تنخرط في شكل من تقاسم السلطة العرقي من الربع إلى النصف تقریباً. وتم منح بعض المجموعات حكماً ذاتیاً -على سبیل المثال، الآتشیین، (سكان إقلیم آتشه في إندونیسیا)، ومجتمعي أیمارا وكیشوا الأصلیین في بولیفیا. وفي الأثناء، تقوم عملیات حفظ السلام التي تدیرھا الأمم المتحدة في كل أنحاء العالم بالمساعدة على منع انفجار الأعمال العدوانیة بین المتحاربین القدامى، وتجعل الجھود المبذولة لتعزیز الدیمقراطیة من الحكومات أكثر استجابة للأقلیات، وبحیث تقنع بذلك مثل ھذه المجموعات بتسویة حساباتھا في صنادیق الاقتراع بدلاً من میدان المعركة.
كما تُظھر بیاناتنا أیضاً أن عدد المجموعات العرقیة الثائرة قد ارتفع في الشرق الأوسط فحسب. وخارج تلك المنطقة، یتحرك التیار في الاتجاه المعاكس. وفي أواسط التسعینیات، كان نحو ثلاثة في المائة من سكان البلد المتوسط یتكون من مجموعات ثارت ضد الحكومة؛ والیوم، ھبطت النسبة إلى نحو نصف ذلك. وبالإضافة إلى ذلك، وعلى أساس مقارنة عالمیة للتنازلات التي قُدمت للمجموعات العرقیة المختلفة فیما یتعلق بالحقوق، والحكم الذاتي وتقاسم السلطة، وجدنا أدلة قویة على أن مثل ھذه التحركات ساعدت على منع نشوب صراعات جدیدة وأنھت القدیمة. وبشكل عام، یبدو أن جھود ما بعد الحرب العالمیة الثانیة لكبح جماح القومیة العرقیة ومنع نشوب الحروب قد عملت بشكل جید نسبیاً.
ومع ذلك، كانت ھناك منذ وقت طویل إشارات على أن من المبكر جداً إعلان الانتصار على القومیة العرقیة. فحول انعطافة الألفیة، كسبت الأحزاب الیمینیة الشعبویة قوة في أوروبا. وفي العام 2005، منیت معاھدة تأسیس دستور للاتحاد الأوروبي بالھزیمة على أیدي الناخبین الفرنسیین والھولندیین، مما یشیر إلى أن الأوروبیین ما یزالون یھتمون بقدر كبیر بالھویة القومیة. وفي العام 2008، شرعت الأزمة الاقتصادیة في تقویض الثقة في العولمة (وأضعفت الاتحاد الأوروبي). وبدلاً من أن تؤدي الاضطرابات التي ھزت العالم العربي بدءاً من أواخر العام 2010، إلى توسیع للدیمقراطیة، فإنھا جلبت عدم الاستقرار والصراع.
خلال القرنین التاسع عشر والعشرین، مالت القومیة إلى الظھور في موجات، ومن غیر المرجح أن تكون الموجة الحالیة قد انتھت من غسل العالم. وبالإضافة إلى ذلك، تأتي ھذه الموجة في وقت تبدو فیه العوائق أمام الصراع وأنھا تخلي مكانھا: الدیمقراطیات في كل أنحاء العالم تعود إلى الوراء، ومیزانیات حفظ السلام تصبح تحت الضغط المتجدد. وكانت للقومیة العرقیة، منذ ظھورھا أول مرة، تداعیات عنیفة. وھناك أسباب وجیھة للقلق من أن صعودھا الحالي سیفعل، أیضاً.
الطریق إلى العنف
یقود تصاعد القومیة العرقیة إلى الصراع بطرق عدیدة مختلفة. والمتغیر الرئیسي، كما وجدت البحوث الأخیرة، ھو الوصول إلى السلطة. وعندما تفتقر المجموعات العرقیة إلیھا، فإنھا تكون أكثر احتمالاً لأن تسعى إلیھا من خلال العنف بشكل خاص. وفي كثیر من الأحیان، یحدث في الدول متعددة الأعراق أن تُھیمن نُخب مجموعة عرقیة معینة على الحكومة وتستثني الآخرین، حتى لو كانت مجموعة القائد الخاصة تشكل أقلیة من سكان البلد. وھذا ھو واقع الحال في سوریة؛ حیث یتولى الرئیس بشار الأسد، وھو عضو في الأقلیة العلویة - طائفة شیعیة یشكل أفرادھا 12 في المائة من السكان- اسمیاً إدارة دولة یتكون 74 في المائة من سكانھا من السنّة. وقد تسبب ھذا التفاوت في حدوث مظالم واسعة النطاق بین المجموعات العرقیة الأخرى وأفضى إلى نشوب حرب أھلیة تسببت حتى الآن في مقتل ما لا یقل عن 400.000 إنسان وتسببت في موجة ھجرة زعزعت استقرار أوروبا. ومع ذلك، غالباً ما تكون المجموعات التي تناضل من أجل السلطة من الأقلیات، مثل التوتسي، الذین شنوا حرباً أھلیة في رواندا في العام 1990، أو السنّة في العراق، الذین ما یزالون یقاتلون للحصول على مقعد حول الطاولة ھناك.
لیس الافتقار إلى السلطة السیاسیة فقط ھو الذي یمكن أن یدفع المجموعات العرقیة إلى حمل السلاح تحت یافطة القومیة؛ یمكن لعدم المساواة الاقتصادیة والاجتماعیة والثقافیة أن یفعل ذلك، أیضاً. وقد وجد الباحثون بشكل مستمر أن عدم المساواة على أساس الخطوط العرقیة یزید من مخاطر اندلاع الثورة. وقد أظھر الاقتصادي فرانسیس ستیوارت، على سبیل المثال، أن مثل ھذا الانعدام في المساواة بین المجموعات ھو أكثر احتمالاً بكثیر لیقود إلى الصراع العنیف من عدم المساواة بین الأفراد، لأن من الأسھل كثیراً تعبئة الناس على أساس الخطوط العرقیة. وبالمثل، وجد بحثي المشترك الخاص أن خطر اندلاع ثورة یزداد باطراد مع اللامساواة الاقتصادیة على أساس الخطوط العرقیة؛ وعلى سبیل المثال، الشیشاني المتوسط ھو أفقر بستة أضعاف من الروسي العادي، وھو ما یترجم إلى زیادة بمقدار عشرة أضعاف في المیل إلى الثورة.
لا تُقتصر ھذه المكتشفات على المجموعات العرقیة العالقة في صراع سلطة من أجل السیطرة على دول قائمة؛ إنھا تنطبق أیضاً على الأقلیات التي تسعى إلى حكم نفسھا. وعادة ما تنظر الدول إلى مثل ھذه المطالب على أنھا لعنة على سیادتھا، ولذلك غالباً ما تقاوم حتى تقدیم تنازلات محدودة للجماعات التي تطالب بھا. وھي غیر میالة، على سبیل المثال، إلى منحھا الحكم الذاتي الإقلیمي. ویمیل ھذا العناد بدوره إلى التسبب بتطرف الأقلیة المتضررة، ویدفعھا إلى أن تطالب بدلاً من ذلك إلى الاستقلال الكامل، ومن خلال العنف في كثیر من الأحیان. ولیس علیك أن تبحث أبعد من الكاثولیك في إیرلندا الشمالیة، وإقلیم الباسك في إسبانیا، والأكراد في العراق وتركیا، والعدید من المجموعات العرقیة في میانمار.
یمكن أن تتسبب القومیة العرقیة في نشوب الصراع بطریقة أخرى: عن طریق الدعوة إلى الوحدة الإقلیمیة بین مجموعة عرقیة واحدة مفصولة بحدود دولیة، وھو ما یشجع الثوار على النھوض ضد دولھم الحالیة. وعلى سبیل المثال، بعد أن ترك تفكیك یوغسلافیا الصرب العرقیین موزعین في دول عدیدة، استغل زعیمھم، سلوبودان میلوسیفیتش، الاستیاء الناجم ودفع بمطالبات بمناطق في كرواتیا والبوسنة والھرسك. ومن حین لآخر، یجري استدعاء الحنین إلى الماضي؛ بتصویره انھیار الاتحاد السوفیاتي على أنه ”أعظم كارثة جیوسیاسیة في القرن“، قام الرئیس الروسي فلادیمیر بوتن بضم شبه جزیرة القرم وغزا شرق أوكرانیا وبرر ھذه الأعمال بالحدیث عن توحید الأمة الروسیة. كما نسج الرئیس التركي رجب طیب إردوغان بكثافة على منوال المجد الغابر للإمبراطوریة العثمانیة من أجل توسیع نفوذ بلده خارج حدودھا الحالیة. كما استحضر رئیس الوزراء المجري، فیكتور أوربان، بالمثل إمبراطوریة ھبسبورغ، وقبل بالمساعدة الروسیة لدعم میلیشیات الأقلیة المجریة داخل أوكرانیا التي تدعو إلى الانفصالیة.
من المرجح كثیراً أن تؤدي القومیة العرقیة إلى الحرب الأھلیة، لكنھا یمكن أن تتسبب أیضاً في نشوب حرب بین الدول عن طریق تشجیع القادة على دعم أنواع المطالبات المحلیة التي یمكن أن تزید التوترات مع الدول الأجنبیة. وكانت ھذه الدینامیة قید العرض في النزاعات بین أرمینیا وأذربیجان، والھند وباكستان، والیونان وتركیا. ووجد الباحثون بعض الأدلة على أن اللامساواة السیاسیة على أساس الخطوط العرقیة تجعل الأمور أسوأ: عندما یعتقد القادة ذوو النزعات القومیة-العرقیة أن المجتمعات التي تربطھم بھا صلات قرابة في الدول المجاورة تُعامل بشكل سیئ، فإنھم یكونون أكثر میلاً إلى الذھاب لإنقاذھا بالقوة العسكریة.
الأكثر من ذلك أن ھؤلاء القادة القومیین-العرقیین ھم معادون نمطیاً للمنظمات الدولیة التي تفضل حقوق الأقلیات، والحكم متعدد الأعراق، والتسویة. وفي نظرھم، تتعارض الدعوات إلى تقاسم السلطة مع حق مجموعتھم العرقیة المشروع في الھیمنة. وھم ینظرون إلى حقوق الإنسان وحكم القانون، وكذلك التدخلات الإنسانیة، مثل عملیات حفظ السلام، على أنھا تھدیدات مباشرة لأجنداتھم القومیة-العرقیة، ولذلك یعملون على تقویضھا. وقد سعت روسیا صراحة إلى إضعاف القانون الدولي والمؤسسات الدولیة من أجل خلق المزید من المتسع لمشروعھا الخاص لاحتلال القرم. وفعلت إسرائیل الشيء نفسه في خدمة احتلالھا الضفة الغربیة. ودعم ترامب، الذي دعا إلى إنھاء العقوبات الأمیركیة على روسیا وقام بنقل السفارة الأمیركیة من تل أبیب إلى القدس، فعلیاً ھذه الدوافع القومیة-العرقیة بطریقة نشطة، مما شجع أكثر على تآكل إجماع ما بعد الحرب الذي كان قد وضع حداً للصراعات العرقیة.
إذا كانت ھذه جمیعاً ھي عوامل التھدید بتحول القومیة-العرقیة إلى صراعات عرقیة، فما ھي الأكثر شیوعاً بینھا الیوم؟ یشیر التحلیل الإحصائي إلى أن البلدان المتنوعة عرقیاً، وإنما التي ما تزال سلمیة نسبیاً، والأكثر عرضة لخطر الھبوط إلى دوامة العنف مع ذلك، ھي إثیوبیا، وإیران، وباكستان، وجمھوریة الكونغو. وھي كلھا دول نامیة لھا تواریخ من الصراع وحیث تعاني الأقلیات من التمییز والاستبعاد من السلطة.
یبقى خطر نشوب الصراع في العالم المتقدم أقل بكثیر، ولكن حتى ھناك، یحتمل كثیراً أن تھدد القومیة العرقیة السلام. وفي إسبانیا، وضع صعود الحزب الیمیني الشعبوي الجدید ”فوكس“ Vox ضغطاً على حزبي یمین الوسط، حزب الشعب وحزب المواطنین، لیصبحا أقل رغبة في التسویة مع القومیین الكتلان، مما یمھد الأرضیة لمواجھة دائمة، والتي یمكن أن تتحول إلى العنف في حال لجأت مدرید إلى اتخاذ تدابیر قمعیة أكثر قسوة. وفي إیرلندا الشمالیة، یمكن أن یقود خروج بریطانیا من الاتحاد الأوروبي إلى إعادة فرض الضوابط الجمركیة على الحدود مع جمھوریة إیرلندا، وھو تطور یمكن أن یدمر الاتفاق الذي حافظ على السلام منذ العام 1998. وفي أوروبا الشرقیة، تھدد عودة القومیة العرقیة بإعادة إیقاظ ما تدعى الصراعات المجمدة، والنزاعات بین الدول التي أوقفھا الاتحاد السوفیاتي أولاً، ثم الاتحاد الأوروبي. وبالإضافة إلى اندلاع حروب جدیدة، فإن إضعاف الضغوط اللیبرالیة لتقاسم السلطة واحترام حقوق الأقلیات سیؤدي على الأرجح إلى تشجیع القومیین العرقیین على إدامة الصراعات القائمة –خاصة المستمرة منذ وقت طویل في إسرائیل، ومیانمار، وتركیا. وعبر الكوكب كله، بعد سبعة قرون من التقدم الثابت نحو السلام، یمكن أن تنعكس وجھة التیار في القریب.
الطریق إلى السلام
للحیلولة دون تحقق ھذه التداعیات المدمرة، ربما یكون من المغوي النظر إلى القومیة العرقیة كجزء من الحل أكثر من كونھا المشكلة. بدلاً من محاولة مقاومة مثل ھذه الحاجات، كما یذھب التفكیر، على المرء أن یشجعھا، بما أنه یغلب أنھا ستجعل الحدود السیاسیة تتوافق مع الحدود الوطنیة، وبذلك تقضي على المظالم عند جذر المشكلة. بل إن بعض المفكرین، مثل إدوارد لوتواك، أوصوا بأن یسمح للمجموعات العرقیة ببساطة بأن تشق طریقھا إلى ذلك بالقتال، مقترحاً أن الألم قصیر الأجل للحرب یستحق فائدة الاستقرار طویلة الأجل التي تأتي عندما تحل الھیمنة العرقیة محل التنوع العرقي. ومع ذلك، وكما أظھرت حالة سوریة، فإن مثل ھذه الاستراتیجیات القاسیة تمیل إلى إدامة السخط، ولیس توطید السلام. ویرى آخرون، مثل العالم السیاسي حاییم كوفمان، أن أفضل طریقة لنزع فتیل الصراع العرقي ھو تقسیم الدولة على أساس الخطوط الطائفیة، ثم نقل السكان بین الكیانات السیاسیة الجدیدة حتى یكون لكل مجموعة عرقیة منطقتھا الخاصة. وبعد الحرب العالمیة الثانیة، على سبیل المثال، دعم صناع السیاسة عملیات نقل السكان على أمل أنھا یمكن أن تقود، بكلمات المؤرخ توني جودت، إلى ”أوروبا مكونة من الدول القومیة الأكثر تجانساً من الناحیة العرقیة من أي وقت مضى“. لكن المشكلة في ھذا الخیار، مع ذلك، ھو أنه حتى مع التطھیر العرقي واسع النطاق -الذي یمیل إلى أن یكون دمویاً وموضع شكل أخلاقي على حد سواء- لیس ھناك أي ضمان على أن الفصل سوف ینتج خطوط قسمة دقیقة بما یكفي. ولو أن كاتالونیا تحررت من إسبانیا، على سبیل المثال، فإن مشكلة أقلیات جدیدة سوف تنتج داخل كاتالونیا، لأن الكثیر من غیر الكتلانیین سیكونون ما یزالون یعیشون ھناك.
بطبیعة الحال، حیث دمر العنف والكراھیة كل إمكانیة للتعایش السلمي، یمكن كثیراً أن یشكل الانفصال العرقي الحل الوحید القابل للتطبیق. وھذا ھو السبب، على سبیل المثال، فإن أن حل الدولتین للصراع الإسرائیلي-الفلسطیني ما یزال یتمتع بدعم واسع النطاق، خارج إسرائیل على الأقل. ومع ذلك، تبقى المشكلة في أنه لیس ھناك معاییر واضحة لكم یجب أن یكون الوضع المقصود عنیفاً ویائساً بشكل عام حتى یبرر التقسیم. ومن دون وجود مثل ھذه العلامة الواضحة، یمكن للانفصال أن یزعزع استقرار الحدود في مختلف أنحاء العالم. وسیكون لدى المجموعات الساخطة والدول ذات النزعات الوحدویة أسباب إضافیة للجوء إلى السلاح لمحاولة تعزیز نفوذھا.
على الرغم من وجود أسباب وجیھة للتشكیك في ھذه الحلول المتطرفة من الانفصال العرقي، فإنه لیس بالوسع التخلص من القومیة. وعلى الرغم من ظھور منظمات مثل الاتحاد الأوروبي، فإن الھیئات فوق الوطنیة لن تحل محل الدول القومیة في أي وقت قریب، لأن الناس ما یزالون یتماھون في أكثر الأحیان مع أمتھم/ دولتھم أكثر مما یفعلون مع ھیئات إقلیمیة بعیدة وغیر منتخبة. وبالنسبة للاتحاد الأوروبي، على سبیل المثال، لا تكمن المشكلة في الافتقار إلى سلطة أقوى لصنع القرار، وإنما في غیاب تضامن أوروبي جامع من النوع الذي یتیح للألمان –على سبیل المثال- أن یروا أنفسھم كجزء من نفس المجتمع السیاسي الخاص بالیونانیین. وبذلك، سیكون أي أمل في استبدال الدولة القومیة عبثیاً في المستقبل القریب.
احتواء القومیة
لذلك یجب احتواء القومیة، ولیس إلغاءھا. وحتى یتم احتواء القومیة العرقیة حقاً، سیكون على الحكومات أن تعالج أسبابھا الأعمق، ولیس مجرد تأثیراتھا المباشرة. وسوف یترتب تقلیل كل من العرض والطب -بمعنى رغبة الحكومات في تطبیق سیاسیات قومیة عرقیة؛ وشھیة السكان لتقبل مثل ھذه السیاسات.
في جانب العرض، تحتاج النُخب إلى استعادة المحظور غیر الرسمي ضد المطالب والسیاسات التمییزیة بوضوح. وما ھو مطلوب ھو أن یمتلك الساسة الوسطیون الشجاعة لمحاربة التعصب والدفاع عن المبادئ الأساسیة للحشمة الإنسانیة. وسوف یترتب على الدیمقراطیات متعددة الأعراق أیضاً أن تتخذ خطوات أكثر قوة لمقاومة المحاولات الخارجیة لإذكاء المظالم بین المجموعات العرقیة وزراعة الانقسامات المحلیة، مثل حملة التدخل الروسیة خلال الانتخابات الرئاسیة الأمیركیة في العام 2016 ، عندما تنكر -على سبیل المثال- ناشطون مدعومون من الكرملین في ھیئة جماعة ”الأرواح السوداء تھم“ وعملوا من خلال وسائل الإعلام الاجتماعیة على تحریض الصراع العنصري.
في داخل المنظمات الدولیة، على الدول أن تدافع عن قیمھا اللیبرالیة الأساسیة بقوة أكبر. وفي حالة الاتحاد الأوروبي، یعني ذلك قطع الدعم المالي عن الدول الأعضاء غیر اللیبرالیة –وربما حتى إنشاء منظمة أوروبیة جدیدة تكون لیبرالیة حقاً، بمعاییر عضویة أكثر صرامة. كما یعني مضاعفة العمل على تعزیز الممارسات المیالة إلى الاشتمال مثل تقاسم السلطة. وقد فعلت الأمم المتحدة والمنظمات الإقلیمیة، مثل الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفریقي، الكثیر لتشجیع مثل ھذه الحلول. كما یمكن لإضعاف ھذه المنظمات أیضاً أن یقوض القواعد التي تقوم بتعزیزھا. وتمیل ممارسات الاشتمال إلى الانتشار من دولة إلى دولة، ولكن كذلك تفعل السیاسات الإقصائیة: تماماً كما فعلت في أوروبا في ثلاثینیات القرن العشرین، حیث بدأ الالتزام بتقاسم السلطة وحقوق المجموعات الآن بالتراجع في أوروبا الشرقیة وفي أجزاء أخرى من العالم، بما فیھا منطقة جنوب الصحارى الأفریقیة.
بالنسبة لجانب الطلب، تمیل القومیة العرقیة إلى جذب معظم الدعم من أولئك الذین حرمتھم كل من العولمة وحریة السوق الرأسمالیة من الامتیازات. ویجد الدیماغوجیون الشعبویون الآن فرصة سھلة لاستغلال التفاوتات الاجتماعیة-الاقتصادیة المتنامیة، خاصة بین المراكز الجغرافیة للدول وأطرافھا، وھم یلقون باللوم في التفاوت على المھاجرین المختلفین عرقیاً أو الأقلیات المقیمة. وسیكون جزء من الإجابة ھو إعادة تجھیز سیاسات الھجرة لكي تعمل على إدماج الوافدین الجدد بطریقة أفضل. ومع ذلك، من دون سیاسات تقلل من التفاوت، فإن النداءات الشعبویة التي تصور المجموعات الخارجیة على أنھا إسفنج یمتص الرفاه سوف تكسب الجاذبیة فحسب. ولذلك، ینبغي على الحكومات التي تأمل في كبح جماح القومیة العرقیة أن تضع البرامج التي تعرض التدریب المھني للعاطلین عن العمل في المناطق المحبطة، وعلیھا أن تحول دون المزید من تجویف برامج الرعایة الاجتماعیة. وعلى الرغم من أن المشاكل الاقتصادیة التي تتغذى علیھا القومیة العرقیة ھي أكثر حدة في الولایات المتحدة والمملكة المتحدة، فإن اللامساواة تتزاید عبر أوروبا الشرقیة، وقد تلقت العدید من دول الرفاه في المنطقة ضربات قویة بسبب سیاسات التقشف.
مع ذلك، تذھب الإجابة عن القومیة العرقیة في نھایة المطاف إلى ما وراء الإصلاحات الاقتصادیة الضیقة؛ ینبغي على النُّخب السیاسیة أن تدعو صراحة إلى التسامح العرقي والتعاون الفوق-قومي، وأن تعرضھا كشؤون متعلقة بالحشمة الإنسانیة الأساسیة والأمن. وقد فضل السیاسیون في أوروبا استخدام الاتحاد الأوروبي ككبش فداء لإخفاقاتھم الخاصة بدلاً من الإشارة إلى إسھامه الحاسم في صنع السلام. وبوضع السؤال عما إذا كان -وكیف- ینبغي إصلاح الاتحاد الأوروبي جانباً، سوف تفعل النُّخب السیاسیة الأوروبیة حسناً إذا ھي عالجت مشكلاتھا المصنَّعة محلیاً من التفاوت الاجتماعي-الاقتصادي والتخلف الإقلیمي. ویجب أن تتوقف عن التظاھر بأن التخفیضات الدراكونیة لمستویات الھجرة سوف تصنع الخدعة عندما یتعلق الأمر بمجابھة الشعبویة والقومیة العرقیة.
بینما یذھب النصف الأول العنیف من القرن العشرین إلى مجاھل التاریخ، یصبح من الأكثر صعوبة باطراد استحضار شبح الصراعات العرقیة القدیمة. وسوف یكون نسیان ذكریات الماضي مأساویاً حقاً. لأن ما تقترحه تلك الذكریات ھو أن الرحلة من القومیة العرقیة إلى الحرب العرقیة ربما لا تكون طویلة جداً، بعد كل شيء.
*ھو عالم سیاسي سویسري وأستاذ أبحاث الصراع الدولي في ETH زیوریخ. مجالات بحثه
الرئیسیة ھي عدم المساواة العرقیة والصراع، وتقاسم السلطة، وتشكیل الدولة والقومیة.
*نشرت ھذه الدراسة تحت عنوان: Blood for Soil: The Fatal Temptations
of Ethnic Politics

المصدر:الغد الأردنية