التعليم، وكيف يمكن أن يكون عماد النهضة؟

التعليم، وكيف يمكن أن يكون عماد النهضة؟

Mar 22 2019

د. عارف دليلة
إلى جميع الأخوات والاخوة الأصدقاء الأعزاء، والطلبة السابقين، الاغرار الأبرار ، سواء اولئك الذين اعرفهم شخصيا، او الذين لا اعرفهم شخصيا، وهم يعدون بعشرات الآلاف ، وبالأخص، من بينهم، الذين اثاروا بالأمس الذكريات الجامعية الغناء ، بمناسبة عيد المعلم، (موضوع المقال السابق)، الذي يرجع الفضل في تذكيري به، ونحن في غمار هذه الكارثة غير المسبوقة التي ترزح فيها سوريتنا وشعبنا المنكوبين ، إلى صديقي استاذ الهندسة السابق بجامعة دمشق ، الدكتور جوزيف صيدناوي ، فاعادني ذلك كله الى رحاب الجامعة، سواء عندما كنت طالبا بكلية التجارة _جامعة دمشق في سنوات القلق (1963_1966)، أو، بالأحرى ، عندما كنت استاذا جامعيا لمدة ربع قرن، (1973_1998)، والتي كان يمكن ان تمتد إلى اليوم لتصبح خمسة وأربعين عاما، لولا أن ارباب الاستبداد والفساد قرروا، ردا على متابعاتي العلمية العلنية المستمرة ، قياما مني بما يمليه علي واجبي واخلاقي الوطنية والانسانية وضميري العلمي واختصاصي الفكري الاقتصاد السياسي التقدمي، بالنقد المستمر لممارساتهم الفاسدة المدمرة لمصالح الدولة والشعب والمانعة للارتقاء والتقدم الحضاري الشامل، قرروا، بطريقة قراقوشية، كعادتهم مع شعبهم، صرفي من الخدمة، وفي خرق صارخ حتى لدستورهم وقانونهم ، في 28/3/1998!!!
أن ما غمرتموني به من شهادات طيبة، من ذكريات الايام الجامعية ، بحلوها ومرها، كنت قد عشتها قبلكم ، ايها الأعزاء، يوم كان يتردد على كل لسان وفي المناهج الدراسية ما قاله الشاعر الحديث أحمد شوقي:
قم للمعلم وفه التبجيلا... كاد المعلم ان يكون رسولا
ولكن، وخلال فترة عملي كاستاذ جامعي في كليتي الاقتصاد، في جامعة حلب في السبعينات وجامعة دمشق في الثمانينات والتسعينات، كنت اعيش واعاني انقلاب هذه القاعدة الذهبية في مجمل حياتنا السورية، مع انقلاب كل شيء آخر . وفي هذا، من جملة الانقلاب الشامل، يكمن تفسير الوضع الذي آلت اليه سورية المنكوبة الراهنة.
هذا بينما نقرأ ونسمع خلال العقود الأخيرة قول رئيس ومؤسس دولة سنغافورة، الصغيرة مساحة وسكانا وعديمة الموارد الطبيعية، الذي استطاع ان يقود مسيرتها من أفقر بلد في العالم ، يوم اخرجتها ماليزيا من خارطتها، إلى واحدة من أعلى دول العالم في الدخل الفردي :أن نهضة سنغافورة قامت على أيدي المعلمين الكفؤين ونظام التعليم الراقي ، والتي بدأت بإعداد المعلمين الكفؤين، وبجعل راتب المعلم أعلى الرواتب في سنغافورة. والأمر نفسه في اليابان السباقة حيث يزيد راتب الاستاذ الجامعي على راتب رئيس الوزراء!
بل ان هذه الوصفة المجربة في التقدم والتنمية وصلت اخيرا إلى البلد الافريقي الفقير رواندا الذي كان قد خسر في أشهر، قبل حوالي عقدين ، 800 الف ضحية، في قتال عنصري همجي محموم بين قبيلتيه الرئيستين : التوتسي والهوتو ، أمام سمع العالم اللامتمدن وبصره، إذ بدأ بالتعافي والنهوض التنموي الحضاري السريع من اقامة نظام التعليم المتقدم، ومن اعداد المعلمين الكفؤين!
وبالطبع، لابد هنا من الاخذ بالاعتبار الشرطين الرئيسين للتقدم المشهود في هذه البلدان وامثالها، والذين يستطيع التعليم والمعلمون ان يكونوا معهما رافعة النهضة الشاملة، الا وهما : أولا، توفر نظام حكم قويم برئيس وحكومات ومسؤولين يجسدون أمام شعوبهم ، قولا وعملا، القدوة والمثل بالوطنية والايثار والنزاهة والكفاءة والتواضع ، وثانيا، تنظيف البلاد من الفساد الشامل واربابه وعوادمه ، هذا الفساد الذي ، في بلدان أخرى معاكسة، كبلداننا العربية، يجعل حفنة من الحمقى المراهقين المتنطعين للسلطة والقرار وحاشياتهم يقاسمون الشعب كله مناصفة على الدخل القومي، وبينما يموت الناس من حولهم وتحت سلطتهم القمعية من الفقر والجوع، تجوب ملياراتهم المسروقة من ايدي ملايين المحرومين من حقوقهم بكل صفاقة وبجميع وسائل العنف، اصقاع العالم ، ليستخدمونها، بعد سحق الشعب ومحق الداخل، بمؤسساته واقتصاده وبنياته التحتية المادية والانسانية والقيمية، في شراء الدعم الخارجي لاستمرار ديكتاتورياتهم الفاسدة، الرابضة ،بثقل باهظ ، على صدر محكوميهم، هذا الدعم المدفوع الثمن من مقدرات بلدهم الى أسيادهم الخارجيين من الأعداء الصفيقين الكبار !
وبينما البلدان من هذه النماذج تندثر ، فإن تلك البلدان تتقدم، لان ابنك، ايها الأخ العزيز، لايشتري فيها الخضروات من بسطة معلمه، ولان التاكسي الذي تركبه لا يقوده ، مضطرا ، المعلم وقت فراغه من مهمته الرسالية "الخالدة"! وهذا، في الوقت الذي يأتي إلى محاضراتك، في البلدان المندثرة ، طلبة من عمر أبنائك في سيارات فاخرة مشتراة من أصل رواتبك المقزمة، والتي يخرج منها أيضا رواتب سائقي هذه السيارات ، والمرافقين من (البودي غارد)، التي تزيد عن راتبك بكثير ، وهم يرمقونك شذرا ، ايها الاستاذ الجليل المبجل، وانت عائد من محاضراتك إلى بيتك ، محشورا بأية وسيلة نقل لاتصلح حتى لنقل المواشي!
ودعونا لا نبتعد كثيرا، اما كانت بلدنا، سورية، قريبة، بل وسابقة، لهذه البلدان الناهضة المحترمة ، معنويا، والى حد ما ماديا، وصاعدة على هذا الدرب، عندما كانت تحبو خطواتها الاولى بعد الاستقلال، وقبل ان يقوم المؤلهون الكاذبون، الانقلابيون المتسلطون، فاسدو النية والطوية ، بقلب الاوضاع اعاليها اسافلها، واسافلها اعاليها ، لتنكص سورية عن طريق الصعود، وتنحدر القهقرى، وحتى الدمار والتلاشي ، باضطراد ، وبإصرار متصدري الأمر الواقع الاشرار ؟
ترى، أين كنا أصبحنا اليوم لولا هذا الانقلاب والنكوص والتصدر ؟