إردوغان في أدواره التخريبية

إردوغان في أدواره التخريبية

Jul 16 2019

حنا صالح*
... وفي العام 2019، تظهرت الصورة: سواد عميم. فبعد سياسة صفر مشكلات التي أرساها قبل سنوات أحمد داود أوغلو، أبرز عقول حزب «العدالة والتنمية»، حليف إردوغان سابقاً وخصمه السياسي راهناً، أخذ إردوغان تركيا إلى المكان النقيض، ألا وهو وضعها في صدام مع المحيط والعالم، ومع الداخل. وتحولت تركيا «العثمانية الجديدة» إلى مقر ومنطلق كل نشاطات جماعات «الإسلام السياسي»، ومرتع للتنظيمات المتطرفة التي تناسلت من «القاعدة»، مثل «داعش» و«جبهة النصرة» وأضرابهما.

«العثمانية الجديدة» هذه باتت في صدام مع الشعبين السوري والعراقي، ومع الكرد، وفي موقع الاستفزاز الدائم والعداء لمصر والسعودية والإمارات، وتدخلها المشين في تونس ليس سراً، ودورها الإجرامي ضد الشعب الليبي يوازي دورها في قتل الشعب السوري والغدر بثورته... إلى صدام مع الحلفاء التقليديين: الولايات المتحدة وأوروبا، ومحاولات التطاول على ثروات الغاز والنفط لدول شرق المتوسط انطلاقاً من احتلالها المستمر لشمال قبرص! والاكتفاء بتحالف مع أنظمة مارقة، مثل إيران خامنئي وإمارة قطر، وتبعية لروسيا. أما في الداخل، فحدث ولا حرج؛ أبعد من صفوف حزبه كل القيادات الجدية. ومنذ «الانقلاب» المثير للجدل عام 2016، امتلأت السجون بالمعارضين وكل المشكوك في ولائهم، وتم عزل عشرات ألوف الموظفين، وتتواصل إجراءات العزل والتسريح في صفوف الجيش، حيث أبرز ضباطه في السجون، وأصاب الشلل والدمار التعليم الجامعي والثانوي، وجرت السيطرة على القضاء الذي بات مسيساً، وقبل أيام تم طرد حاكم البنك المركزي التركي لأنه لم يستجب لرغبات الوالي العثماني بخفض الفائدة، كرشوة كان يظن إردوغان أنها ستكون خشبة الخلاص لفوز مرشحه بن علي يلدريم في إسطنبول، وهذا ليس إلا غيض من فيض.

في النصف الأول من العقد الحالي، بدأ إردوغان الذي نجح لاحقاً في حصر مقاليد الحكم بين يديه التصرف كخليفة عثماني؛ هو الموجه لكل رموز «الإخوان المسلمين» والجماعات «الجهادية»، من محمد مرسي في مصر، وراشد الغنوشي في تونس، إلى رياض الشقفة من سوريا، فضلاً عن قيادات «حماس» في غزة. وتبعاً لهذا المنحى، استضاف في إسطنبول، بدءاً من يناير (كانون الثاني) 2013، اجتماعات «التنظيم الدولي» لجماعة «الإخوان المسلمين»، الذين ناقشوا وأقروا صيغ العمل الميداني في المنطقة والعالم، وإنشاء لوبي ضغط، مستغلين ما تُتيحه الدول الديمقراطية من إمكانات، من خلال المساجد والمدارس والهيئات التعليمية والدينية والمؤسسات الإنسانية، مع استغلال أوساط اللاجئين من سوريا واليمن والعراق وليبيا وسواها.

3 محطات ميَّزت النهج التخريبي الذي اندفعت فيه تركيا - إردوغان؛ أولها التكامل مع المخططات الإجرامية للنظام الإيراني، فكان مشروع الهلال التركي مكملاً للهلال الفارسي، وامتد من جزيرة قطر إلى جزيرة «سواكن» السودانية في البحر الأحمر، وإلى ليبيا وتونس، ويبقى الشمال السوري مركز الانطلاق. ودوماً كان الاستهداف هو للسعودية ومصر. وما يثير السخرية أن الهدف كان توهماً تركياً بالقدرة على استعادة صفحة سوداء تماثل الاحتلال العثماني الذي كان، توهماً لا يعدو كونه كاريكاتيراً دامياً. وهذا التكامل يبرز هذه الأيام بالاندفاعة التركية مع طهران ضد العقوبات الأميركية.

ثانيها الهيمنة على الشمال السوري، بداية بواسطة المنظمات المتطرفة التي شكلت تركيا نقاط عبور لها، ومراكز لتجميعها وتسليحها، إلى تأمين الواردات المالية لها، والمثال الفج تجارة النفط المهرب لـ«داعش» عبر تركيا، وكل أشكال نهب ثروات المنطقة، كتهريب الآثار، إلى تهريب المخدرات. وفي المرحلة الثانية، استفاد النظام التركي من تبادل الخدمات مع الحكم الروسي، بدءاً من معركة حلب حتى تاريخه، فمنحت موسكو أنقرة الضوء الأخضر للتدخل في الشمال السوري، ومرة ثانية للتدخل في عفرين، ومرة ثالثة في إدلب، ودوماً كان الثمن غدر الحكم التركي بالثورة السورية ومصالح الشعب السوري. تركيا تحتل اليوم 10 في المائة من الأراضي السورية، وهاجسها عبر سياسة التتريك والأدلجة، والتحكم في الوضع التعليمي والوظيفي والمعيشي للناس، بسط النفوذ وقمع الحركة الكردية، والاستيلاء على الثروات الزراعية السورية، خصوصاً في إدلب وعفرين.

ثالثها التدخل العسكري في الشأن الليبي، دعماً لحكومة السراج المهيمن عليها من الجماعات الإرهابية التي تديرها شبكة «الإخوان المسلمين». صحيح أن الرئاسة التركية بدأت في أبريل (نيسان) الماضي الاعتراف بالدعم، ووصفت الميليشيات بأنها شرعية، لكن التدخل التركي يعود إلى عام 2014. وكانت البداية إرسال السلاح والعتاد، وتأمين خدمات التدريب والقيادة الميدانية. وأصبح الأمر علانية بعد انكشاف شحنات الأسلحة المرسلة من تركيا إلى مصراتة وسواها. ومع اشتعال معركة استعادة طرابلس، وتراجع الميليشيات المسيطرة على العاصمة، انكشف الدور التركي المباشر في الحرب على الشعب الليبي، عندما أرسلت أنقرة مرتزقة أتراكاً وأعداداً كبيرة من الميليشيات العاملة بإمرتها في شمال سوريا وإدلب، يتردد أن من بينهم نسبة من إرهابيي «هيئة تحرير الشام» (جبهة النصرة سابقاً)! بعدما سهّلت انتقال مجموعات من «داعش» إلى دول الساحل وجنوب الصحراء!! وفي ليبيا، كما في سوريا، يتم التدخل التركي تحت عنوان مد النفوذ، وهاجس وضع اليد على جزء من الثروة الغازية، من خلال تنظيم «الإخوان المسلمين»، لتعويض خسارات في مناطق أخرى، وأملاً في أخذ دول المنطقة إلى ترسيم جديد للحدود البحرية الاقتصادية يكون على المقاس التركي!

مؤخراً، تحدثت تقارير استخبارية غربية، ألمانية وفرنسية وإيطالية، عن اتساع دور الجماعات المتطرفة المارقة التي تمارس العنف في أوروبا، وسلطت الضوء على جهات من «الإسلام السياسي» توفر الغطاء لـ«الجهاديين» هي الأكثر خطورة، لأنها على اتصال بجميع شرائح المجتمع الأوروبي. هذه الجماعات التي تنشط وسط اللاجئين والمهاجرين الجدد تدار وتوجه من مصدر واحد في تركيا. تبع ذلك إلغاء تأشيرات عدد من الأئمة الأتراك، وإبعادهم عن النمسا وألمانيا والدانمارك... إلخ. وتحمل أخبار كل صباح المزيد من المعطيات عن اتساع الهوة بين تركيا والاتحاد الأوروبي بعد سقوط الحلم التركي بالانضمام إلى أوروبا.

وبعد، مع مصادرة الإعلام وتقنين الحريات، وتغطية التجاوز على القوانين من جانب الأتباع والمريدين، ولا سيما بعض أوساط رجال الأعمال الذين وضعوا يدهم على عالم الصفقات والأعمال، ومحاباة الفاسدين المحيطين بالرئاسة التركية، والمحاصصة معهم، مما فاقم من الوضع الاقتصادي، فتراجعت القدرة الشرائية للناس بعد تطيير مدخراتهم، تتضح أكثر الصورة المأساوية عن بعض نتائج المنحى السلطاني لهذه «العثمانية الجديدة» التي وضعت تركيا في مواجهة يومية مع الخارج والداخل، الأمر الذي يعني تسارع العد العكسي لتغيير لا ريب آتٍ... لكن هناك كثيراً من الشكوك في أن إردوغان سيعرف التقاط فرصة الخروج!!

*كاتب لبناني
المصدر: الشرق الأوسط