أفول مراتب السلطة في علاقات القرابة والحقوق الشخصيّة

أفول مراتب السلطة في علاقات القرابة والحقوق الشخصيّة

Sep 22 2018

برجاف|مارسيل غوشيه
يكاد الأمر لا يصدق ولا يعقل، فمثله «لا يمكن حدوثه». فنحن شهود انصرام سيطرة الرجال أو الرجل على النساء، وما يترتب على هذا الانصرام من نتائج تتطاول إلى أركان الحياة الاجتماعية والخاصة. لكن، ليكن جلياً أن ما نشهده هو موت هذه السيطرة من حيث المبدأ. ويخلّف موت المبدأ في أثره ذيولاً قد تتستر على عمق الانعطاف أو القطيعة، وتجيز ربما نفخها. وضعف التأسف على انصرام السيطرة الذكرية تُسدل عليه ستارة تحجبه عن الأنظار. فلو تضافرت مقاومات اعترضت على هذا الأفول، لكانت أبرزته وجلت حادثته وأظهرتها. وقد تتستر اللامبالاة على ارتياح عام وخفي. فهذه السيطرة أو الغلبة تنطوي على إكراه لا يعف عن أحد، ولا يعف أولاً عمن يفترضون أصحاب المنفعة من السيطرة.
ويقود هذا الى الفحص عن بعد أساسي من الواقعة الجوهرية. فهي ليست ثمرة مؤامرة على الإناث أجمع عليها الذكور وتحالفوا، على خلاف نظرية تروج لها بعض التيارات النسوية، وإن صاغتها في حلة أكثر تهذيباً ونظافة. وهي لم تنجم عن واقعة طبيعية، فيزيولوجية، تتعلق بالجنسين. واهتزازها اليوم يدل على صفتها الاجتماعية، على رغم دوامها آلاف السنين، وعلى علاقتها الوثيقة بكياننا المجتمعي وانخراطنا، نحن البشر، في اجتماع لا ننفك منه. وانحلال أو أفول السيطرة الذكرية على مشهد منا وتحت أعيننا، يتيح لنا الإحاطة بعلل الأدوار الجنسية ونظامها القديم، وبفهم الفروق بين الجنسين ومحلها من بنية الاجتماع وأركانه.

ويعود أقوى تعليل للفرق المرتبي بين الجنسين، أي لغلبة الذكور، على علمي، إلى فرانسواز هيريتييه. وهي تعلل الغلبة الذكرية باستيلاء الذكور على خصوبة النساء، وعلى متعتهن ولذتهن بالتالي. فالتسلط على الخصوبة الأنثوية هو مفتاح العلاقة بين الجنسين. ومكانة الخصوبة من انعقاد الاجتماع وانتظامه تقتضي إناطتها بقوة تتجاوز مصلحة طرف من الأطراف (أو الطرفين)، بالغاً ما بلغ من الدلالة. فينبغي بهذه الحال إناطتها بقوة الجماعة كلها (أو المجتمع كله)، وبما يتعدى الأجزاء التي تأتلف منها الجماعة. وشأن القسمة الجنسية، أي إناطتها بالجماعة، هو شأن الدِّين. فالدين كذلك شريك القسمة الجنسية في إنشاء الجماعات الإنسانية وفي دوامها وحفاظها على قوامها، وما أذهب إليه وأريد البرهان عليه هو أن بين الأمرين أو الظاهرتين علاقة حميمة. والسيطرة الذكرية وجه من وجوه تدبير الخلق وتصريفه. والأمران، على نحويين مختلفين، يتصرفان في الحياة الجمعية يداً بيد، في الابتداء وفي الانصرام.

ويلاحظ سكوت فرانسواز هيريتييه عن الدين في إحصائها ما تسميه «وقوفات الفكر» وأولها الوقوف في شأن القسمة الجنسية. والوقوف الآخر، بداهة، هو تجربة غير المرئي أو غير الشاهد. ولا تنفصل هذه التجربة عن اللغة والتوسل بها إلى الكلام عن الغائب، على ما ليس حاضراً ولا مشهوداً. ونفس المتكلم، حين يتكلم على ما «في نفسه من أحاسيس» ومشاعر وانفعالات ورغبات وأفكار وإرادات، هي في رأس ما لا يشهده المتكلم. ويقود هذا الى قسمة الإنسان «شيئين»: الجسد المرئي والنفس غير المرئية أو الروح التي تحل الجسد ولا يحوطها.

ويعم الازدواج، على مثال القسمة، العالم وظواهره. وبداية التأمل الديني هي إيجاب اتصال بين غياب النفس، الشطر غير المرئي منها، وما لا يُرى من العالم. وعلى هذا، يتنازع النوع البشري نازعان: نازع الى الرومانسية الغيبية، ونازع الى الطبيعة الجسمانية والمادية. وتتبوأ الرومانسية الغيبية الصدارة، وتدين بهذه المكانة لاضطلاعها بدور حاسم في تعليل إنشاء المجتمع (أي الاجتماع عموماً) وإرسائه على أسس معقولة. وذلك أن سمة الاجتماع الأولى هي دوامه الزمني. ولا تقوم لمجتمع قائمة إلا إذا تعهد أو رعى دوام ثقافته، وهوية هيئته ونظامه، وضمن تجاوزهما (الثقافة والهوية) تجدد أفراده الذين يولدون ويموتون. ويعتقد الأحياء أن ما بينهم من روابط وعلائق ليس من صنع أيديهم وإرادتهم، ويتخطاهم إلى أصل أول هم من نتاجه. ويتولى الأصل رعاية دوام المجتمع على رغم تجدد الأفراد الذين يتكون منهم. وولاية الأصل هي مبدأ التراث والتقليد، ويترتب عليها الحفاظ على تأسيس يتعالى عن البشر.

وفرضُ الدوام وتجدده، يعود إلى البنيان الديني. والتناسل الطبيعي في صورة الذراري، والثفافي في صورة هوية مجتمعة من شؤون هذا البنيان. ويولي الفرضُ هذا القرابة، ونظمها، مكانة متصدرة من الحياة الاجتماعية. وتنشأ نظم القرابة، على ما ذهب إليه كلود ليفي - ستروس، عن ركنين: تحريم السفاح والزواج خارج الصلب المباشر. وترسو هوية الجماعة، ووحدتها على مرّ الأجيال، على انقيادهما إلى حد أو قانون (شرعٍ) ملزم. وتمد روابط الدم التضامن والتآصر الوثيقين بقوة تزيدهما وثوقاً، ويسبغ عليهما الترميز بالجسد (الرأس والجوارح والأوشاج...) لغة واضحة. وتصل هذه الروابط بين الأحياء، على قواعد صارمة، كما تصل بينهم وبين من مضوا من آباء وأجداد، وبينهم وبين أولادهم وأحفادهم الآتين.

ولو اقتصر الآباء الذكور على ولادة أولاد ذكور، واقتصرت الأمهات الإناث على ولادة البنات، لهان الأمر، وانفرد كل جنس من الجنسين بمجتمعه على حدة من مجتمع الجنس الآخر. ولما أشكل ولا طرح موضوع السيطرة. لكن الحال أن النساء يلدن الأولاد الذكور والبنات جميعاً. وعلى هذا، فهن صواحب سلطان تتعلق به أحوال الاجتماع كلها ويؤدي هذا «الامتياز» إلى مسألة التصرف به وإدارته أو تدبيره. ويطرح قضية عسيرة هي قضية وحدة النوع البشري، وما يتشاركه النساء والرجال على رغم تباين حاليهما. وامتلاك النساء «امتياز» ولادة أولاد من الجنسين كان في وسعه أن يرتب، منطقياً، تصدر النساء وغلبتهن، على خلاف ما رتبه فعلاً. ويقتضي هذا تعليلاً مناسباً.

والعنصر الأول من التعليل هو أن إنشاء تماسك اجتماعي بناء على الفرق الطبيعي، الفيزيولوجي، اقتفى أثر المثال الديني. والمثال الديني مرتبي أو تراتبي أولاً. فالتماسك يفضي إلى الوحدة من طريق صدارة قاطعة يختص بها عنصر على آخر، ويستتبع بها عنصر العنصر الآخر ويلحقه به. فحاضر البشر الأحياء واحد لأنه متحد اتحاد تبعية بماضي الأجداد الأوائل والمؤسسين. وفي إطار الالتحاق العام والمشترك بشرائط تماسك الكيان المجتمعي، يتماسك المذكر والمؤنث من طريق سيطرة الأول على الثاني وإلحاقه به. والتناسل الطبيعي، وصدارة النساء في شأنه، ضرورة لا شك فيها. إلا أن التناسل الطبيعي لا يستوفي وحده شرط التماسك الثقافي، واتصال الأجيال الزمني، وتوارث السنن والحدود والشرائع.

وتبعاً لهذا، يتقدم التجدد الثقافي التناسل الطبيعي، ويتولى التجدد الأول من لا يملكون إعطاء الحياة ولكنهم يتعهدون حفظ الكيان الجمعي. وقارن (ضاهى) سلطانُ من يتولون حماية وجود الجماعة من سعي أعدائها في دمارها سلطانَ من يملكن إعطاء الحياة، ويرعين بقاء الجماعة وتناسلها، وكلا السلطانين كلي ومطلق. والمنعطف الذي يفضي اليوم الى أفول السلطان الذكري على النساء مهد له الطريق انتقال الإنشاء الاجتماعي من الدين الى السياسة. وبلغ هذا الانتقال تمامه في سبعينات القرن العشرين. والسياسة التي تضطلع بالإنشاء والإيجاب والإرساء لا تتصدى لدورها الجديد وهي مقيمة على حالها. فهذا الدور يقتضي بنياناً مختلفاً. وهو لا يتولى صنع هوية الجماعة، وثباتها على رغم تغير الأحوال، بواسطة الدوام والاتصال العضويين والوحدة الجوهرية في صيغتها الدينية. فيقتصر هذا الدور على تعهد مكان وزمان إطاريين، وعلى تجديد خدمتهما من غير إلزام الأفراد بالاندماج في الإطار العتيد، ومن غير أن يتولوا نسج روابط معلنة في ما بينهم.

فتصدع نظام الموجبات والنواهي الذي حاط الحياة الجنسية وسوّر التناسل، من داخل، وعلى وجه سرعة غريبة قياساً على عدد القرون التي قامت من هذا النظام مقام السند ومدته بأسباب الدالة والثبات. والبقية الباقية من نظام المراتب القديم لجأت الى الأسرة، حضن العلاقة بين الجنسين، وبين الأجيال. ولم يعد المجتمع يطلب من الأسرة المساهمة في نسج العلاقة الاجتماعية أو إنشاء رابطة المعية. وكف المجتمع عن التأليف بين عائلات أو جماعات قرابية. وتخصخصت الأسرة، وأوكل أمرها إلى أفرادها أو أعضائها، وإلى تصرفهم الحر، ونحَّت الهم الجماعي جانباً. وكان إبقاء المرأة في حال قصور من مهمات الأسرة. ومن مهماتها الحؤول دون عموم الفردية. وأفرج التخفف من هاتين المهمتين عن تولي الأفراد، في الأسرة وخارجها، التصرف غير المقيد بالأعراف والمعايير بحياتهم الجنسية، وبنتائجها التناسلية (أو الافتقار إليها).

وتقلصت الولادات على نحو حاد. فالأطفال المولودون من الرغبة أقل عدداً من المولودين مصادفة واتفاقاً. فالتغيير العميق لحق بطريقة تعهد المجتمعات دوامها الزمني. فهذه المجتمعات تخلت عن التملك الاجتماعي للحياة الجنسية، ولا تحتاج إلى إعمال تملكها في بنيان كيان الأفراد، ولا في وسم هويتهم الحميمة بوسم هذا التملك. ونظام الأدوار السابق أولى الذكورة والأنوثة مكانة بارزة وحاسمة. وحُمل الأفراد على التزام هذا الوجه من إنسيتهم التزاماً قوياً وذاتياً، وسوغت الالتزام بالصورة الطبيعية التشريحية التي قسمت للأفراد غير مختارين. ولا شك في أن الوصف الذي تقدم يصدق في المجتمعات الغربية وعليها. لكن هذا الوصف يعلل، من وجه آخر، هجس الأصوليين، على اختلاف مشاربهم، بالموضوع الجنسي، الهامشي ظاهراً وفي منظور رؤيا قدسية الى العالم. إلا أن النسب وأواصر الرحم ومحل التذكير والتأنيث، من أركان سلطان الأجداد وسلطان القديم. فهي جزء لا يتجزأ من بنيان المخلوقات الهرمي والمرتبي. وهي البقية الباقية من هذا البنيان حين تتهاوى العبارات البارزة عن النظام السياسي، أي السلطان المقدس وتفاوت المقامات والامتيازات والحقوق.

ولعل من أقوى القرائن على فعل المساواة بين الأفراد، وعلى تقويضها المراتب والتفاوت بين البشر، ما حل في المثال الأبوي. فالأب كان «رب الأسرة». وكانت الأسرة «خلية» المجتمع ونواته. وهذا كله لم يبق منه في النصوص القانونية المدنية، وفي الوقائع، إلا أثر ضعيف. فتقلص الدور الذي قرن صدارة الأسرة برئاسة الدولة، ولم يعد الأب «رئيس» (رب) الأسرة، ولا بقي رئيس الدولة أباً. وذوت السلطة الأبوية «في النصوص وفي المعاملات الاجتماعية والمشاعر الشخصية، معاً. وما وسع بعض مدارس علم النفس التحليلي تسميته بـ»حد الأب» (أو قانونه وشرعه) قبل نصف قرن، أخلى مكانه لأنواع من المنازعات والأعراض النفسية الجديدة. فالمنازعات والأعراض السابقة، أي تلك التي غذت التشخيص والتنظير في أوائل القرن العشرين، نجمت عن تباين بين منطق المؤسسة (الأبوية الاجتماعية) وبين منطق الفرد «العاطفي» والانفعالي. ومثّل «حد الأب» على الفصل في المنازعات باسم حق الجماعة في الحياة والموت، وفي جباية ضريبة الدم، وواجب التناسل والتكاثر. وخسرت الغلبة الذكرية، مع انكفاء الدور الأبوي، ركنها.

واستعملت الحداثة (الغربية) الفكرية والسياسية والاجتماعية المادة الأبوية، وصاغتها صياغة جديدة في العلانية الجامعة والعامة. واستقى بُعد العلانية الجامعة والعامة (أو العمومية) مشروعيته من الموضوعية العلمية، ومن ثمراتها المختبرة والمنذورة للنشر والمداولة. وتشترط الموضوعية ونتائجها ومقدماتها، الحياد المجرد عن الميول والأهواء، والفصل بين ما يتشاركه العموم وبين ما يتعلق بالخصوصية. وما كان يعرِّف التذكير (المذكر) استعادته العلانية العمومية وضوته إليها. وأمسى المواطن هو من يتولى خدمة الشأن العام. وتدين الحقائق بقوتها الى «العقل الطبيعي» أو الفطري. وحياد القاضي يدين بمعاييره الى مثال قريب من هذا، شأن حياد الوظيفة العامة وتجرد الموظفين من أهوائهم ومصالحهم. و»الملكية الخاصة» الاقتصادية، على رغم خصوصيتها، تحمل على الأخذ بمعايير تنظيم وإجراء منفصلة عن الخصوصية المنزلية والشخصية، وتقوم على عقلانية تكنولوجية والحساب الاقتصادي. وحل محل «الأب الحاجز» (على قول التحليل النفسي) «الأب المموِّن» (تالكوت بارسونز) الذي يتولى رعاية وحدة منزلية وتربية أطفالها في عهدة أم ربة منزل.

وقلصت العائلة النواتية دور الأب السياسي. وغلب على الأسرة وجه «عاطفي» كان له الأثر الأول في عقد الزواج بين امرأة ورجل. وهذان جمعهما الحب والانعطاف والتعارف المباشر. وطوى الزواج، في هذه الحال، عقد المصلحة والحلف بين الأهلين، وغدا شأناً خاصاً. ومال التذكير إلى التمثيل على التجرد والعمومية، والتأنيث إلى الإقرار بالهوية الجنسية. لكن إناطة الوظيفة الرمزية الجماعية بالشأن والنصاب السياسيين انتزع رعاية الدوام والتجدد الجماعيين والتاريخيين من الذكر، وأفرغت معارضة الطبيعة بالثقافة من مضمونها ومادتها، وسوّت الذكر والإناث في باب الأفراد وسواسيتهم، وأعفتهم من المشاركة في صوغ رابطتهم وعروتهم، ومحت مثال الأم المتفانية في خدمة أسرتها ومعه مثال الرجل الذي يبذل دمه في سبيل وطنه.

* المسؤول عن تحرير المجلة ومدير بحوث، عن «لو ديبا» الفرنسية، 3/2018، إعداد منال نحاس
(المصدر:الحياة )